11 أكتوبر 2023

أفضل المعروف إغاثة الملهوف




الحمد لله رب العالمين ..ناصر المستضعفين ومجير المستجيرين ومغيث المستغيثين من استغاث به أغاثه وأعانه فقال تعالى }إِذۡ تَسۡتَغِيثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلۡفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ مُرۡدِفِينَ (9){ ]الأنفال[ .

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير...  أمر بالتعاون والتناصر والتآزر وأن نكون مجتمعاً متوحداً متعاوناً فقال تعالى }وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ (2){ ] المائدة[

وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) أوصى بإغاثة الملهوف وتفريج كربة المكروب وبين أنها السبيل إلى الجنة فعن ابنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ (ﷺ) قال: }مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ{[ البخاري ومسلم].

فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ......

أما بعد .. فيا أيها المؤمنون

إن تقديم العون والنصرة لمن يحتاج إليها سلوك إسلامي أصيل، وخلق رفيع تقتضيه الأخوة الصادقة، وتدفع إليه المروءة ومكارم الأخلاق، وقد كانت حياة النبي محمد (ﷺ) خير مثال يُحتذى في كل شيء، ولا سيما إغاثة الملهوف، وتقديم العون لكل من يحتاج إليه، حتى لقد عُرِف بذلك قبل بعثته (ﷺ) ، فعند نزول الوحي عليه أول مرة رجع إلى أمنا السيدة خديجة فأخبرها الخبر ثم قال: "لقد خشيت على نفسي". عندئذ أجابته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: "كلا والله! ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".

لقد استدلت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها على حفظ الله له، وعدم تضييعه إياه بصنائع المعروف التي كان يصنعها ؛ فالجزاء من جنس العمل.

فإغاثة الملهوف عمل عظيم، "فأفضل المعروف إغاثة الملهوف" لذلك كان موضوعنا} أفضل المعروف إغاثة الملهوف{ وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ..

1ـ قيمة إغاثة المكرب والملهوف في الإسلام.

2ـ فضل إغاثة المكروب وأثرها على الفرد والمجتمع .

3ـ إغاثة المكروب سلوك الأنبياء والصالحين .

4ـ صور مضيئة في إغاثة المكروب والملهوف .

5ـ الخاتمة .

العنصر الأول : قيمة إغاثة المكرب والملهوف في الإسلام:

إنَّ قيمة التكافل بين الناس، وخُلُقَ إغاثة المكروب من الأمور التي لا يقوم المجتمع المسلم إلَّا بها، إنَّها قيمٌ إنسانيَّة اجتماعيَّة راقية، ويُعتبر خلق إغاثة المكروب في الإسلام من أهم الأعمال شأنها شأن باقي الأمور التي يقوم بها المسلم، لأنه عمل يتقرب به المسلم إلى الله وهو جزء من العبادة ، وقد أكثر الله سبحانه وتعالي، من الدعوة إلى الخير، وإغاثة المكروب ، وقد أحسن الله تعالى إلى الإنسان أيما إحسان ، وأمره أن يقابل هذا الإحسان بالإحسان إلى الآخرين ، وتقديم الخير لهم، سواء بالمال، أو بالمشورة الصادقة، أو بالمواساة ، فقال تعالى{وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ (77)}]القصص[ .

فإغاثة المكروب واجبًا ينهض به القادرون، وعملاً من أعمال الخير يتنافس فيه المتنافسون، وأصبح من الحقائق حيث قال رسول الله (ﷺ): }من كان في حاجة الناس كان الله في حاجته{

 بل رأينا رسول الله (ﷺ) يأمر المسلمين بإغاثة الملهوف، فحين نهى عن الجلوس في الطرقات، إلا إذا أعطى المسلم حق الطريق ، ومن حق الطريق: إغاثة الملهوف: "وتعينوا الملهوف، وتهدوا الضال".

وعند أحمد من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: مرَّ رسول الله (ﷺ)  بقوم جلوس في الطريق. قال: "إن كنتم لابد فاعلين فاهدوا السبيل، وردوا السلام، وأغيثوا المظلوم".

وإغاثة الملهوف صدقة من العبد له أجرها وبرها.. فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ﷺ): }على كلِّ مُسلِمٍ صدقَةٌ ، فإنْ لمْ يجِدْ فيعمَلُ بيدِهِ ، فينفَعُ نفسَهُ و يتصدَّقُ ، فإنْ لمْ يستطِعْ فيُعينُ ذا الحاجَةِ الملْهُوفَ ، فإنْ لمْ يفعلْ فيأمُرُ بالخيرِ ، فإنْ لمْ يفعلْ فيُمسِكُ عنِ الشرِّ ، فإنَّهُ لهُ صدقةٌ {  ] أخرجه البخاري ومسلم[

العنصر الثاني : فضل إغاثة المكروب وأثرها على الفرد والمجتمع:

من أجلّ وأجملِ ما يتميز به المجتمع المسلم أن يتمتع أفراده بالمروءة والشهامة وإغاثة الملهوف، تلك السجايا التي تطرز النفوس بالخيرات وتُحوِّلُ الحياة إلى طعومٍ طيبةٍ، وتعزز معاني الوئام بين القلوب، فلإغاثة المكروب فضل عظيم وأثر كبير من ذلك ما يلي ...

1ـ إغاثة المكروب عنوان الإيمان الصحيح والعقيدة السليمة :

 قال تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ(177)} [البقرة].

إن إغاثة الملهوف وإجابة المحتاج والسعي في قضاء حوائج الناس لهو دليل على قوة الإيمان والتقوى ، وصدق الإخاء.

2ـ إغاثة المكروب زاد إلى الجنة:

الزاد الحقيقي الذي ينفع الإنسان في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم ، قال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(110)} [البقرة].

3ـ تفريج كُرب الدنيا والآخرة والجزاء من جنس العمل:

عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (ﷺ): }مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ...{ ]رواه مسلم[.

والقليل منه مقبول عند الله تعالي : عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ (ﷺ): }لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ{ وفي رواية طليق{. [ مسلم، الترمذي، الدارمي ].

ويقول تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ(7)} [الزلزلة]. 

والمعنى أن أي فعل مهما كان قليلاً، حتى لو كان مثقال ذرة فإن الله يجزيه على عمله، ويرى نتيجة فعله.

4ـ إغاثة المكروب من أسباب جلب الخير ودفع السوء :

قال ابن القيِّم رحمه الله: "وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم على اختلاف أجناسها، ومللها، ونحلها، على أن التقرب إلى رب العالمين، والبر والإحسان إلى خلقه ، من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر، فما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمه، بمثل طاعته والإحسان إلى خلقه"[الجواب الكافي]. اهـ

وروى الطبراني في معجمه الكبير مِن حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ (ﷺ) قَالَ: }صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ  تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ{ [المعجم الكبير وقال المنذري في كتابه "الترغيب والترهيب إسناده حسن. وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة] .

يحكي الشيخ محمد الشنقيطي: أن رجلاً أحسبه من الصالحين ، وكان أميراً في قومه ، نازلاً من الطائف إلى مكة في يوم جمعة ، وكان معه ابن له .

رأى رجلاً ضعيفاً فقال لابنه : قف لهذا الضعيف .

فكأن الابن نظر إلى رثاثة حاله فكره أن يركبه مع والده في السيارة الفارهة .

يقول : فشعرت بما في نفس ابني فذكَّرتُه بصنائع المعروف وأن الله يحفظ العبد بها ، وأنها تقي مصارع السوء .

فلما دخلنا مكة ونحن في أشد سرعة السيارة لندرك الجمعة ، وإذا بطفل أمام السيارة تماماً لا نستطيع أن نفر عنه .. فمرت عليه السيارة تماماً .

أصابنا الرعب ، وتوقفنا على أن الطفل قد مات .

نزلنا فإذا به قائم على رجليه ليس به بأس ، فقلت له : ما هذا ؟

قال : لما مرت السيارة انكفأت على وجهي .

فدمعت عيناه وركب السيارة وهو في حال لا يعلمها إلا الله ، وقال : يا بني ، والله لا أعرف لك إلا هذا المعروف الذي فعلته فرحمنا الله به .

5ـ إغاثة المكروب أمان يوم القيامة:

روى ابن أبي الدنيا والطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله (ﷺ):}أحب الأعمال إلى الله سرور تُدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربةً، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد  (يعني مسجد المدينة) شهرًا، ومن كف غضبه، ستر الله عورته، ومن كظم غيظه، ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله عز وجل قلبه أمنًا يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى أثبتها له، أثبت الله عز وجل قدمه على الصراط يوم تزل فيه الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخلُّ العسل{؛ ]حديث حسن[

6ـ إغاثة الكروب سبب لاستدامة النعم:

 إن الله تعالى إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يرى أثرها عليه وفي عباده، وقد جاء في حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ): }إِنَّ لِلَّهِ قَوْمًا يَخْتَصُّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، وَيُقِرُّهَا فِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ فَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ{ ]رواه ابن أبي الدنيا[

وروى الطبراني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ): }مَا مِنْ عَبْدٍ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ نِعْمَةً فَأَسْبَغَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ جَعَلَ شَيْئًا مِنْ حَوَائِجِ النَّاسِ إِلَيْهِ فَتَبَرَّمَ، فَقَدْ عَرَّضَ تِلْكَ النِّعْمَةَ للزَّوَالِ{

فأقوى ما تحفظ به نعم المال والجاه والقوة شكر المنعم عليها، باصطناع المعروف بها، وبذلها لمن يحتاجها.

7ـ إغاثة الملهوف والمكروب تجلب محبة الناس ودعاؤهم:

النفوس مجبولة على حب من يتمنى لها الخير، ويصنع لها المعروف، ويبذل لها ماله وجاهه ووقته ونفسه، وقد قال النبي (ﷺ): }مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ، فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ{

وقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه: «مَا رَأَيْتُ رَجُلًا قَطُّ سَبَقَ مِنِّي إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ إِلَّا أَضَاءَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا قَطُّ سَبَقَ مِنِّي إِلَيْهِ سُوءٌ إِلَّا أَظْلَمَ مَا بَيْنِي وبينه».

فصنائع المعروف تنشر المودة والسرور، وتقرب القلوب، وتزيل شحناء النفوس، فلا يتقاعس عنها إلا مبخوس الحظ محروم.

العنصر الثالث : إغاثة المكروب سلوك الأنبياء :

إن أصحاب النجدة والمروءة لا تسمح لهم نفوسهم بالتأخر أو التردد عند رؤية ذوي الحاجات؛ فيتطوعون بإنجاز وقضاء حوائجهم طلبًا للأجر والثواب من الله تعالى.

وانظر إلى الشهم الكريم نبي الله موسى عليه السلام حينما دخل المدينة كما ذكر الله تعالى : }وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ(15)} [القصص].

قال القرطبي: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ (15)} [القصص]؛ أي طلب نصره وغوثه. وكذا قال في الآية بعدها:{فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ (18)} [القصص]. أي: يستغيث به على قبطي آخر؛ وإنَّما أغاثه لأنَّ نصر المظلوم دينٌ في الملل كُلِّها على الأمم، وفرض في جميع الشرائع.

وانظر إليه عليه السلام ، حين فرَّ هاربًا من بطش فرعون، وقد أصابه الإعياء والتعب، فلما ورد ماء مدين ووجد الناس يسقون، وجد امرأتين قد تنحيتا جانبًا تنتظران أن يفرغ الرجال حتى تسقيا، فلما عرف حاجتهما لم ينتظر منهما طلبًا، بل تقدم بنفسه وسقى لهما قال تعالى : }وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ(24){ [القصص].

والقدوة الأولى في إغاثة الملهوف والمكروب هو سيدنا رسول الله (ﷺ) فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كان النبيُّ (ﷺ) أحسنَ الناسِ وأجودَ الناسِ وأشجعَ الناسِ، ولقد فَزِعَ أهلُ المدينةِ ذات ليلةٍ فانطلق الناسُ قبلَ الصوتِ فاستقبلهم النبيُّ (ﷺ) قد سبق الناسَ إلى الصوتِ وهو يقولُ: }لم تُراعوا لم تُراعوا "لا تخافوا" وهو على فرسٍ لأبي طلحةَ عُرِيٍّ ما عليه سَرْجٌ، في عُنُقِه سيفٌ فقال: لقد وجدتُه بحرًا أوإنه لبحرٌ "يقصد الفرسَ في سرعته{ ]صحيح البخاري[

وهكذا نرى أن النبي الكريم (ﷺ) لم يتأخر عن نجدة الناس في وقت الفزع والخوف بل كان أسرعهم على فرس عريٍّ إلى موقع الحدث وعاد ليؤمِّنَهُم من فزعهم وخوفهم، وكذلك كان على الدوام أقرب الناس إلى مظنات الأخطار ليحميَهم ويسدَّ عنهم الثغرات، قال عليٌّ بن أبي طالبٍ رضي الله تعالى عنه وأرضاه: }كنا إذا حَمِيَ البأسُ ولَقِيَ القومُ القومَ اتَّقَيْنَا برسولِ اللهِ (ﷺ) فما يكونُ أحدٌ أقربَ إلى العدوِّ منهُ{ (العراقي في تخريج الإحياء وقال: إسناده صحيحٌ)،

وقد أغاث النبي الكريم (ﷺ) عمرو بن سالم الخزاعي لما جاءه ملهوفاً يستغيث به أن قريشاً خانوا العهد ونقضوا الميثاق الذي بينهم وبين رسول الله (ﷺ) وقتلوا منهم عدداً

فقال رسولُ اللهِ (ﷺ): }نُصِرتَ يا عَمرو بنَ سالمٍ{وجهز جيشا لمواجهة المعتدين على قبيلة خزاعة.  

العنصر الرابع : صور مضيئة في إغاثة المكروب والملهوف:

كان الصالحون حريصون على تفريج كربة المكروبين وتنفيس هم المهمومين ، من أجل إرضاء الله عز وجل ، لا من أجل الثناء والشكر من أحد، وهذه بعض المواقف..

1ـ موقف أهل الحبشة في وقت الخصاصة :

عن سعيد بن جبير، قال: بعث النبيُّ (ﷺ) جعفرًا في سبعين راكبًا إلى النجاشي يدعوه، فقَدِمَ عليه، فدعاه فاستجاب له وآمن به؛ فلمَّا كان عند انصرافه، قال ناس ممَّن قد آمن به من أهل مملكته، وهم أربعون رجلًا: ائذن لنا، فنأتي هذا النبيَّ، فنسلم به، ونساعد هؤلاء في البحر، فإنَّا أعلم بالبحر منهم. فقَدِمُوا مع جعفر على النبيِّ (ﷺ) ، وقد تهيَّأ النبيُّ (ﷺ) لوقعة أحد؛ فلمَّا رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة وشدَّة الحال، استأذنوا النبيَّ (ﷺ) ، قالوا: يا نبيَّ الله، إنَّ لنا أموالًا، ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة، فإن أَذِنت لنا انصرفنا، فجئنا بأموالنا، وواسينا المسلمين بها. فأَذِنَ لهم، فانصرفوا، فأتوا بأموالهم، فواسوا بها المسلمين، فأنزل الله فيهم:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(54)} [القصص].

2ـ ابن عباد البصري مع الملهوف:

عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبَّادٍ الْبَصْرِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ فِي مَنَامِي ذَاتَ لَيْلَةٍ قَائِلًا يَقُولُ: أَغِثِ الْمَلْهُوفَ. قَالَ: فَانْتَبَهْتُ. فَقُلْتُ: انْظُرُوا هَلْ فِي جِيرَانِنَا مُحْتَاجٌ؟

فَقَالُوا: مَا نَدْرِي. قَالَ: فَنِمْتُ ثَانِيًا، فَعَادَ إِلَيَّ.

فَقَالَ: تَنَامُ وَلَمْ تُغِثِ الْمَلْهُوفَ، فَقُمْتُ.

فَقُلْتُ لِلْغُلام: أَسْرِجِ الْبَغْلَ، وَأَخَذْتُ مَعِي ثَلاثَ مِئَةَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ رَكِبْتُ الْبَغْلَ، فَأَطْلَقْتُ عَنَانَهُ، حَتَّى بَلَغَ مَسْجِدًا.

قَالَ: فَنَظَرْتُ فَإِذَا رَجُلٌ يُصَلِّي، فَلَمَّا أحَسَّ بِي انْصَرَفَ.

قَالَ: فَدَنَوْتُ مِنْهُ.

فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، فِي هَذَا الْوَقْتِ، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، مَا أَخْرَجَكَ؟!.

قَالَ: أَنَا رَجُلٌ خَوَّاصٌ كَانَ رَأْسُ مَالِي مِئَةَ دِرْهَمٍ، فَذَهَبَتْ مِنْ يَدَيَّ، وَلَزِمَنِي دَيْنُ مِئَتَيْ دِرْهَمٍ. قَالَ: فَأَخْرَجْتُ الدَّرَاهِمَ.

وَقُلْتُ: هَذِهِ ثَلاثُ مِئَةِ دِرْهَمٍ خُذْهَا.

قَالَ: فَأَخَذَهَا، قُلْتُ: تَعْرِفُنِي؟ قَالَ: لا.

قُلْتُ: أنا إِسْحَاقُ بْنُ عَبَّادٍ، فَإِنْ نَابَتْكَ نَائِبَةٌ فَأْتِنِي، فَإِنَّ مَنْزِلِي فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا.

فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ، إِنْ نَابَتْنَا نَائِبَةٌ، فَزِعْنَا إِلَى مَنْ أَخْرَجَكَ فِي هَذَا الْوَقْتِ، حَتَّى جَاءَ بِكَ إِلَيْنَا.

3ـ الفاروق عمر رضي الله عنه في عام الرمادة :

ما أروعه من مشهد في إغاثة المكروب ،ففي السّنة الثامِنة عشرة مِن الهجرة، كانتْ مدينة رسول الله (ﷺ) وما حولَها مِن البوادي على موعد مع مجاعةٍ لم تعرفْها العرَب في تاريخها.

وقعَتْ هذه المسْغَبة بعد انقطاعِ المطر عن أرْض الحِجاز مدةً طويلة، فحصَل القحْط، ومات الزَّرْع، وقلَّتِ اللُّقْمة، وعُدِم أطايبُ الأكْل، ونزر الكلام، وكفَّ السائلون عن السُّؤال، وهَزلتِ المواشي، فكان الرجل يذْبح الشاةَ فيَعافُها مِن قُبْحها، وجَعلتِ الوحوش تأوي إلى الإنس، وحصلتْ مَسْغبةٌ ما عرفتْها العرب في أيَّامها؛ حتى كان الرجلُ القويُّ يتلوَّى بيْن أهْله مِن شدَّة المَخْمَصة، وماتَ كثيرٌ من الأطفال والنِّساء في تلك السَّنة.

وانجفَل أهلُ البادية إلى المدينة، لعلَّهم يَجدُون عندَ الخليفة ما يسدُّ حاجتَهم، ويُسكِت بطونَهم، وكانتْ أعدادهم تَزيد على ستِّين ألفًا، وبقُوا أشهرًا عدَّة، ليس لهم طعامٌ إلا ما يُقدَّم لهم من بيْت مالِ المسلمين، أو مِن أهل المدينة آنذاك.

روى ابنُ كثيرٍ في "تاريخه": "أنَّ عمر رضي الله عنه عسَّ ذاتَ ليلة عام الرَّمادة، وقد بلَغ بالناسِ الجهْد كلَّ مبْلَغ، فلم يَسمع أحدًا يضحَك، ولم يسمع متحدِّثًا في منزله، ولم يرَ سائلاً، فتعجَّب وسأل، فقيل: يا أميرَ المؤمنين، قد سألوا فلم يجدوا، فقَطَعوا السؤال، فهم في هَمٍّ وضِيق، لا يتحدَّثون ولا يضحكون.

أمَّا حال عمر رضي الله عنه مع تلك المجاعَة، فلا تَسلْ عن حاله!

تغيَّرت عليه الدُّنيا، وأظلمتْ عليه المدينة، طالَ كمدُه، وتغيَّر لونُه، وذبُل جِسمُه، وحمَل همًّا لا تتحمَّله الجبال الرواسي.

كان رضي الله عنه أكثرَ الناسِ إحساسًا بهذا البلاء، وتحمُّلاً لتبعاته، فكان لا ينام إلا غِبًّا، ولا يأكل إلا تَقوُّتًا، ولا يلبس إلا خَشِنًا.

عاش كما يعيش الناس، تنفَّس همومَهم وغمومَهم، وذاق حاجتَهم وفاقتَهم، بل كان أولَ مَن جاع وآخِرَ مَن شَبِع، ما قَرُب امرأةً من نِسائه زمنَ الرَّمادة، حتى أحيا الناس من شدَّة الهمِّ.

قال عنه خادمُه أسلم: كنَّا نقول: لو لم يرفعِ الله  تعالى  المَحْلَ عام الرمادة، لظننَّا أنَّ عمرَ يموت همًّا بأمر المسلمين.

خطَب الناسَ عامَ الرمادة، فقَرْقَر بطنُه وأمعاؤه من الجوع، حتى سَمعتِ الرعية قرقرةَ بطنه، فطعَن بإصْبعه في بطْنه، وقال: قرقِرْ أو لا تقرقِر، والله لا تشبعْ حتى يشبعَ أطفالُ المسلمين.

هذا هو الفاروق، هذا هو ابن الخطَّاب، الذي ملأ الأرض عدلاً ورحمة، عَقمتِ النِّساء أن يلدنَ مثل عمر.

يَا مَنْ يَرَى عُمَرًا تَكْسُوهُ بُرْدَتُهُ     وَالزَّيْتُ أُدْمٌ لَهُ وَالْكُوخُ مَأْوَاهُ

يَهْتَزُّ كِسْرَى عَلَى كُرْسِيِّهِ فَرَقًا     مِنْ خَوْفِهِ وَمُلُوكُ الرُّومِ تَخْشَاهُ

نَما إلى علمه أنَّ جماعة في أقْصى المدينة قد نَزَل بهم من الضُّرِّ أكثرُ مما نزل بغيرهم، فحمل الفاروق  رضي الله عنه  جِرابينِ من دقيق، وأمَر خادمَه أسْلمَ أن يَلحقه بقِرْبة مملوءة زَيتًا، وأسْرع عمرُ في الخُطَا، حتى وصل إلى أولئك المحتاجين، ورَقَّ لحالهم، وتأثَّر مِن خصاصتهم، فوضَع بنفسه الطعامَ في القِدْر، ونفَخ في النار، حتى كان الدُّخَان يخرُج من بيْن لحيته البيضاء، فطبَخ للقوم طعامَهم، ووزَّعه عليهم حتى شَبِعوا، وطابتْ عينُه بعدَ ذلك، ثم أمَر بهم، فحُمِلوا إلى داخلِ المدينة حتى يكونوا قريبًا منه.

كان رضي الله عنه  دائمًا ما يقول: كيف يَعنيني شأنُ الرعية، إذا لم يمسَّني ما مسَّها؟!

بل أبعد مِن ذلك عباد الله: أنَّ عمر رضي الله عنه - كان يحمل أهلَه، وأولاده زمنَ الرمادة، على شِدَّة وشَظَف العيش.

دخَل يومًا على ابنه عبدالله، فوجدَه يأكُل شرائحَ لحْم، فلامه، وقال له: ألا إنَّك ابنُ أمير المؤمنين، تأكُل لحْمًا، والناس في خَصاصة! ألاَ خُبزًا ومِلحًا، ألا خبزًا ومِلحًا.

ورأى يومًا بطيخةً في يدِ ولدٍ من أولاده، فصاح به: بخٍ بخٍ يا ابنَ أمير المؤمنين، تأكل الفاكهةَ وأمَّة محمَّد هَزْلَى!

كان رضي الله عنه  يُؤثِر بطعامه الآخرين على نفسه، أمَرَ يومًا بنَحْر جزور، وتوزيع لحمِه على أهل المدينة، وعندما جلَس عمرُ لغذائه، وجَدَ سنامَ الجذور وكبدَه على مائدته، وهما أطيبُ ما في الجَذور، فسأل: مِن أين هذا؟ فقالوا: مِن الجزور الذي ذُبِح اليوم، فأزاحه بيده، وقال: بئس الوالي أنا، إن طعمتُ طيبَها، وتركتُ للناس كراديسَها؛ يعني: عظامها، ثم أمر بمأدبته المعهودة، خبز يابس وزَيْت، فجعل يكسِر الخبز ويثرده بالزَّيت، ولم يكملْ هذه الوجبة المتواضعة؛ لأنَّه تذكر أهل بيتٍ لم يأتِهم منذ ثلاثة أيام، فأمر خادمَه بحمْل الطعام إلى ذلك البيت.

كان رضي الله عنه  في تلك المَخْمَصة كثيرَ التضرُّع لربِّه، منكسرَ الحال، ملازمًا للصلاة، لم ينقطعْ لسانُه عن الاستغفار.

لقد فقُه الفاروق  رضي الله عنه  أنَّ هذه الصِّعابَ ليس لها كاشِف إلا مسبِّبها، فعجَّ إلى ربِّه بالدعاء، وسعَى بعد ذلك إلى إصلاح نفسه، ومحاسبتها، وإصْلاح رعيته وتذْكِيرها.

ذكر ابنُ سعْد في "الطبقات"، عن سُليمانَ بن يَسَار، قال: خطَب عمرُ الناسَ في زمن الرمادة، فقال: يا أيُّها الناس، اتَّقوا الله في أنفسِكم، وفيما غاب عنِ الناس من أمرِكم، إلى أن قال: هلمُّوا فلندعُ الله أن يصلحَ قلوبنا، وأن يرحمَنا، وأن يرفعَ عنا المَحْل، قال الراوي: فرُئي عمر  رضي الله عنه  يومئذ رافعًا يديه يدعو، والناس يدعون، حتى بكَى، وأبْكى الناس مليًّا.

قال عنه ابنُه عبدالله: سمعتُ أبي في السَّحَر يقول: اللهمَّ لا تجعلْ هلاكَ أمَّة محمَّد على يدي، وكان يقول: اللهمَّ لا تُهْلِكْنا بالسِّنين، وارْفع عنَّا البلاء.

وخرَج  رضي الله عنه  إلى المصلَّى يستسقي، ومعه النَّاس، والضَّعَفة والأطفال، فخرَج متواضعًا متضرِّعًا متخشِّعًا، فصلَّى بالناس ركعتَين، لم يدرِ الناس ما يقولُ مِن البُكاء، ثم وعَظ الناسَ وذكَّرهم، ثم ألحَّ في الدعاء، وألظَّ في المسألة، وكان مِن سؤاله: اللهمَّ عجزتْ لنا أنصارُنا، وعجزتْ عنا حَوْلُنا وقوَّتنا، وعجزتْ عنَّا أنفسُنا، ثم أخَذ بيَدِ العباس بن عبد المطَّلب، فقال: اللهمَّ إنَّا كنَّا نستسقي إليك بنبيِّنا فتسقينا، وإنَّا نتوسَّل إليك بعمِّ نبيِّنا فاسْقنا، وكان العبَّاسُ قد طال عمرُه، ورقَّ عظمُه، فجعلتْ عيناه تذرِفان، وهو يقول: اللهمَّ أنتَ الراعي فلا تُهملِ الضالَّة، ولا تَدعِ الكسيرَ بدار مضيعة، فقد صرَخ الصَّغير، ورقَّ الكبير، وارتفعتِ الشَّكْوى، وأنت تعلم السِّرَّ وأخْفَى، فأغْنِنا بغناك.

واستجاب الله الدُّعاء، وعمَّتِ الرحمة، وأرسلتِ السَّماء خيراتِها، فلم يكَد ينصَرِف الناس إلى منازلهم، حتى خاضوا الغُدران، واستبشر المسلِمون خيرًا، وعَرَفوا أنَّ المددَ الإلهي قد قرُب.

بَيْدَ أنَّ الفاروق رضي الله عنه - بعدَ هذا الخير العميم، لم يَقفْ موقفَ المتواكِل؛ لأنَّ الأرض لن تخرجَ بركتَها إلا بعد أيَّام كثيرة، والناس حولَه يتضاوون مِن الجوع ويموتون، فسلَك كلَّ طريقة فيها إغاثةُ الناس، وما ترك وسيلةً فيها إصلاحُ الناس إلا سعَى إليها.

تَرَك أخْذ الزكاة من الناس ذلك العام، وأنْفق كلَّ ما في بيت المال من الطعام والكساء، واشترى كلَّ ما في السوق من الأكل، حتى نفد الطعام، وأصبحَ المال لا قيمةَ له بعد ذلك.

ذكر ابنُ كثير: أنَّ عمر عام الرَّمادة قد غفل عن طلب الغَوْث من أمراء المناطق، حتى أشارَ عليه بعضُ الصحابة، فقال عمر رضي الله عنه: الله أكبر! بلَغ البلاء مدَّته.

ثم كتَب إلى عُمَّاله في المناطِق، الغوثَ الغوثَ، كتب إلى أبي عُبيدة بالشام، وإلى عمرو بن العاص بمصر، وإلى معاويةَ بنِ أبي سُفيان بالعِراق، يستغيثهم ويستمدُّهم، فأسرع الولاةُ لنجدةِ خليفتهم، وعاصمةِ إسلامهم، فجاءتْ قوافلُ المسلمين تزحَف كالسيل، محمَّلة بالطعام والكِساء.

كتب إليه عمرو بن العاص، أتاك الغوثُ يا أميرَ المؤمنين، لأبعثنَّ إليك بعِيرٍ أولُها عندَك، وآخرُها عندي، ووصلتْ تلك الإغاثات إلى عمر رضي الله عنه فسُرِّي عنه، وخفَّ همُّه، وبرد غمُّه، وقسم على كل ناحية مِن نواحي المدينة أمراء، يتولَّوْن إطعامَ الناس، ومتابعةَ حاجاتهم، ثم يجتمعون عندَه في المساء؛ ليوافوه بأخبار الناس، بل كان عمر رضي الله عنه  يُشرِف بنفسه أحيانًا على إطْعام الناس، فيقول: أطعموا هؤلاء، وزِيدوا مرقةَ أولئك.

ذكر ابن سعد: أنَّ عمر رضي الله عنه  سأل يومًا: أحْصُوا مَن تعشَّى عندنا، فأحصَوْهم فكانوا سبعةَ آلاف، وفي ليلةٍ أخرى عشرة آلاف.

واستمرَّتِ القدور العُمرية الضَّخْمة تستعِرُ نارُها من بعد الفجْر إلى المساء، وكان عمر رضي الله عنه يُرسِل إلى الناس مؤنةَ شهر ممَّا يصله من الأمصار.

ثم بعد تِسعة أشهر، أخرجتِ الأرضُ خيرَها، وعمَّتْ بركتُها، وزال الضِّيق، ورُفِعتِ الكُربة، ولهجتِ الألْسن بحمد الله وشُكْره، فجعل الناس يترحَّلون من المدينة بعدَ أيام عَنَت ومشقَّة عاشوا فيها، وفقدوا فيها أحبابَهم.

وجعَل الفاروق رضي الله عنه  يسيرُ معهم، ويودِّعهم بدمعات حارَّة، يرَى تلك الوفود التي أَوَتْ إليه جائعةً متهالِكة خائفة، ها هي الآن تعود إلى دِيارها ومساكِنها، آمنةً مطمئِنَّة، معها الزادُ والخير الكثير، فقال رجلٌ لعمر في هذا المظهر المهيب: أشهد أنَّها انحسرتْ عنك، ولستَ بابن أَمَة، فقال له عمر: ويلَك! ذلك لو كنتُ أنفقتُ عليهم مِن مالي أو مِن مال الخطَّاب، إنَّما أنفقتُ عليهم من مال الله عزَّ وجلَّ.

الخاتمة :

إنَّ السعيَ في رفْع معاناة البائسين من أفضل القروبات إلى الله عز وجل ،وأرفع الناس درجة في إغاثة المحتاجين، هو : من تفقد أخاه المحتاج قبل أن يأتيه فيسأله؛ فعلى المسلم أن يتفقد حال إخوانه وجيرانه؛ ولا يكون مثل ذلك الغافل؛ الذي بات شبعان وجاره جائع !

بل إن المسلم الصادق يتفقد حال إخوانه المسلمين أينما كانوا؛ فيتألم لألمهم، ويحزن لحزنهم، فتجده مسارعًا إلى إعانتهم، وتفريج كرباتهم، لا تجعل أخاك المسلم  يقف ذليلاً منكسراً فكم في مجتمعنا من أولئك المحتاجين الذين لا يسألون الناس، ولا يمدون أيديهم؛ عفة، وحياءً، فحري بأمثال هؤلاء أن يتفقدهم الناس، ويكفونهم ذل السؤال..

فعن عبد الله بن الحسن بن الحسين رضي الله تعالى عنهم قال: أتيت باب عمر بن عبد العزيز في حاجة، فقال: إذا كانت لك حاجة إليَّ فأرسل إليَّ رسولاً أو اكتب لي كتاباً، فإني لأستحي من الله أن يراك ببابي.

وما أحسن ما قاله معمر رحمه الله : (من أقبح المعروف أن تحوج السائل إلى أن يسأل وهو خجل منك، فلا يجئ معروفك قدر ما قاسى من الحياء وكان الأولى أن تتفقد حال أخيك وترسل إليه ما يحتاج ولا تحوجه إلى السؤال) .

أخي المسلم : فليكن عونك للمحتاجين؛ غايتك منه  طلب ثواب الله تعالى والإحسان إلى أخيك المسلم، وتفرج كربته، ولا تجعل همك حب الشهرة، أو طلب الشكر، وذكر الناس.

ولا ننسى دعاء الملهوف "اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت".

و "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض ورب العرش العظيم".

اللهم آمين .

====== 

رابط doc

https://www.raed.net/file?id=403444

رابط pdf

https://www.raed.net/file?id=403447


ليست هناك تعليقات: