30 أكتوبر 2022
29 أكتوبر 2022
على قدر النوايا تكون العطايا
النوايا الطيبةُ مفتاح الخير في هذه الحياة، وبوابةُ التوفيق والرزق، وهي من العبادات الخفية، فكلما كان داخل الإنسان نقيا ابتسمت له الدروب، ولانت له الخطوب، ومالت إليه القلوب.
ابدأ يومك دائما بمفتاحين:
الأول النية الطيبة؛ فهي مفتاح الرزق،
والثاني الكلمة الطيبة؛ فهي مفتاح القلوب.
وعلينا بإحسان نوايانا وإصلاح مقاصدنا، وهذه هي البداية؛ لأن صفاء النية ونقاء السريرة وحسن الظن مفتاح لكثير من كنوز الدنيا والآخرة.
النية سر العبودية وروحها:
فهي من الأعمال بمنزلة الروح من الجسد؛ لأنها من أعمال القلوب، وأعمال القلوب أنفع وأنجع الأعمال يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّما الأعمالُ بالنِّيات)(متفق عليه)، فهي ملاك الأعمال، وعليها يكون القبول والرد، والثواب والعقاب.
الإنسان يبلغ بنيته مالا يبلغ بعمله:
فقد يعجز المرءُ عن عمل الخير الذي يصبو إليه لرقة حاله، أو ضعف صحته، أو قلةِ حيلته، لكن الله المطلع على خبايا النفوس يرفع أصحاب النوايا الصادقة إلى ما تمنوه، لأن طِيبَ مقصدهم أرجحُ لديه من عجز وسائلهم.
فما أعظم النية! فإنك تستطيع بنيتك الصادقة وعمل قلبك الخالص أن تلحق بأجر المحسن العظيم، وإن لم يكن لديك مال تتصدق به، ففي حديث أبي كبشة الأنماري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ)[رواه الترمذي وقال: حسن صحيح].
وفي الحديث الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (منْ سَأَلَ اللهَ تَعَالَى الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ)[رواه مسلم]، فكل من صدق الله صدقه الله جل في علاه.
على قدر النوايا تكون العطايا:
نظافة قلبك، وسلامةُ صدرك، ونيتُك الصافية، هي مفتاح التيسير والمنح والفتوحات في هذه الحياة.
ولا يغلق باب على العبد فيصدق في نيته ويحسن الظن بربه إلا ويفتح الله له أبوابا أوسع وأرحب يقول سبحانه: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ}[الأنفال:70].
أصلح ما في قلبك؛ ينزل الله عليك السكينة، ويفتح لك الأبواب ويحميك، مهما ظهر الأمر بخلاف ذلك، يقول الحق سبحانه: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا}[الفتح:18، 19].
النية الصالحة تفتح أبواب الخير والتوفيق والمعونة:
من أوجد نية الخير في قلبه أعانه الله على عمله، وفتح له من أبواب التوفيق والتيسير على قدر نيته، يقول سبحانه: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ}[الأنفال:23].
والله لا يضيع صدق النوايا ولو خفيت عن عباده، فأرح قلبك مهما أُسيئت بك الظنون، وإياك أن تدخل في نوايا الناس فلا يعلم ما في القلوب إلا علام الغيوب، يقول الله تعالى: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا}[الإسراء:25].
كتب سالمُ بنُ عبد الله إلى عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ-رحمهم الله جميعاً- في بداية خلافته: “فإن نويت الحقَّ وأردته أعانك الله عليه، وأتاحَ لك عُمَّالا، وأتاك بهم من حيث لا تحتسب، فإنَّ عونَ الله على قدر النية؛ فمن تمَّت نيتُه في الخير تمَّ عونُ الله له، ومن قَصُرَت نيتُه قصر من العون بقدر ما قصر منه” أخرجه أحمد في كتاب الزهد.
سر صلاحك في صلاح سرك، وباب جنتك في طهارة قلبك:
إن سرَّ صلاحِك يكمُن في إصلاحِ سرك، فضع نيةَ الخير في قلبك وسيتولى الله أمرَك، وكم من أبواب عظيمة فُتِحَت بمفتاح النية الطيبة، وكم من شخصٍ رُزِق بنيته الطيبة أكثرَ مما يتوقع، وعلى قدر نياتكم ترزقون.
لوْ يَعْلَمُ المَــرْءُ عَنْ تَدْبِيْرِ خَالِقِهِ .. .. لَه لَـمَا نَاحَ حُزْناً أَوْ شَــكَا أَلَـمَا
خَرْقُ السَّفِيْنَةِ كَانَ الشَّرُّ ظَاهِرَهُ .. .. وَالخَيْرُ فِيْهِ فَسُبْحَانَ الَّذِي حَكَمَا
فهُما في الوزر سواء
والنية الصالحة كما تزيد صاحبها خيرا فإن النية السيئة تزيد صاحبها سوءًا يقول تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}[البقرة:9].
فكما أن النية الطيبة قد تُبَلِّغك منازلَ المتصدقين، فإن النيةَ السيئةَ قد تبلغك منازلَ الخاسرين، ففي بقية حديث أبي كبشة المتقدم يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ).
وفي قصة أصحاب الجنة الذين أضمروا النيةَ بحرمان المساكينِ فعاقبهم الله، فتحولت بَساتينُهم إلى سواد وجناتهم إلى رماد يقول سبحانه: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ}[القلم:17ـ20].
اللهم أصلح لنا النيات، وحقق لنا الأمنيات، وبلغنا الغايات في أعلى الجنات.
اللهم أصلح نوايانا، وأكرم عطايانا، واجعلنا من عبادك المحسنين.
أخي الحبيب:
ما أعظم الصدق مع الله، وما أجمل صفاء النفوس وإخلاص النوايا، فبقدر النوايا تكون العطايا، والقرآن يربينا على ذلك، تأمل:
1- (إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ)، [الأنفال آية:٧٠]
2- (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) [الفتح آية:١٨].
3- (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ) [محمد آية:٢١]
** وفي غزوة تبوك (جيش العسرة) لم يستطع بعض الصحابة الذهاب لعذر أصابهم، مع صدق نيتهم وتحقق رغبتهم، فكتب الله لهم أجر المشاركة.
** وبالعكس أصحاب الجنة بيتوا النية لمنع العطاء من ثمار جنتهم للفقراء والمساكين؛ فكان الجزاء أن احترقت جنتهم.
نعم: (على قدر النوايا تكون العطايا).
نجوم الإسلام
28 أكتوبر 2022
الإسلام دين السلام
الحمد لله رب العالمين، جعل السلام هدف الإسلام وغايته في الأرض، قال الله -تعالى-: (لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ)[الْأَنْعَامِ: 127]، وقال تعالى: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[يونس 25]، وقال تعالى: (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ)[هود: 48].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويُميت وهو علي شيء قدير، جعل تحية أهل الجنة السلام، فقال تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ)[إبراهيم: 23].
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاء برسالة السلام من عند الله السلام، فدعا لإفشاء السلام بين الناس جميعا، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس أفشوا السلام".
فاللهم صَلِّ علي سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعـد: فيا أيها المؤمنون:
إن في الإسلام تدريبًا عمليًّا للمسلم على المبادئ الإنسانية العليا التي جاء بها، فقد أراد ألا تكون مبادئه وقيمه الاجتماعية مجرد شعارات أو نداءات، بل جعلها من صلب العقيدة الإسلامية، فمن مبادئه الأساسية السلام، ولم يكن مجرد شعار أن الإسلام دين السلام، ولكنه عقيدة وسلوك وعبادة، نتعبد بها لله -تعالى-؛ فلذلك كان موضوعنا "الإسلام دين السلام" ويتناول هذه العناصـر الأساسية وهي:
1ـ مفهوم السلام.
2ـ نظرة الإسلام الشاملة للسلام.
3ـ نظرة الإسلام إلي أدعياء السلام.
4ـ أثر السلام في حياة الأمة.
5ـ الخاتمة.
إن الإسلام بمدلول معناه السلام، مشتقٌّ من صفة الله واسمه الكريم السلام، بصريح القرآن (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ)[الحشر 23].
وقيل: "السلام والسلامة: البراءة، وتسلَّم منه: تَبَرَّأ.. ومنه قوله -تعالى-: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)[الفرقان: 63]؛ أي: تسلُّمًا وبراءةً، لا خيرَ بيننا وبينكم ولا شرَّ.. ويقولون: سلام عليكم؛ فكأنَّه علامةُ المسالمةِ، وأنه لا حرب هنالك.. وقيل: (قَالُوا سَلَامًا)؛ أي: سدادًا من القول وقَصْدًا، لا لغو فيه.. ومنه قوله -عز وجل-: (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ)[القدر: 5]؛ أي: لا داء فيها، ولا يستطيع الشيطانُ أَن يصنعَ فيها شيئًا. وقد يجوز أن يكون (السلام) جمع: سلامة، والسلام: التحيَّة، ومنه قوله: (دَعْوَاهُم فِيْهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، وَتَحِيَّتُهُم فِيْهَا سَلَامٌ)[يونس:10]".
السلام في القرآن الكريم:
ورد لفظُ: (السلام) وما اشتُقَّ منه في كتاب الله -عز وجل- في أربع وأربعين آية، منها خمس مدنية، والباقيات مكية، في حين لم يرد لفظ الحرب إلا في ستِّ آياتٍ، كلُّها مدنية. وهنا لفتة جميلة لا بد من التنبُّه إليها؛ وهي أنَّ القرآنَ الكريم يدعو إلى السلامِ في الدرجة الأولى، ويحثُّ عليه، ويرغِّب فيه، ويرفض الحرب والتنازع والفُرْقة. ومن الآيات الكريمة الدالة على هذا المفهوم:
قوله -تعالى-: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ)[الأنفال:61]. أي: إنْ مالوا إلى المسالَمَة والمصالحة والمهادنة؛ فَمِلْ إلى ذلك، واقْبَلْهُ منهم، كما وقع في صلح الحديبية لَمَّا طلبَ المشركون الصلحَ ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد أجابهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك مع ما اشترطوا عليه من الشروط؛ رغبةً في السلم والمسالمة.
قوله -تعالى-: (وَلَا تَقُولُوا لِمَن أَلْقَى إِلَيكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا)[النساء: 94]، فقد فُسِّر معنى (السلام) فيها بـ(السَّلَم)؛ أي: بالمسالمة التي هي ضد الحرب.
ويدل على ذلك قوله: (أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ)، ولم يقل: (عَلَيكُم)، فدلَّ على أن المقصود به: ترك القتال؛ كما في الآية الأخرى: (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُم وَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقُوا إِلَيكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا)[النساء: 90]، وقوله: (فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُم وَيُلْقُوا إِلَيكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُم)[النساء: 91].
السلام في السُّنَّة المُطَهَّرة:
ونجد أن دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ هي: (السلام)، فلم يكن نَبِيُّنا -صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى الحرب، ولا إلى المخاصَمة، والتنازُع، ولا إلى التشاجر، بل يدعو إلى السلام، ويهدي الناس إليه ويدلهم عليه.
فمن ذلك: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم أخو المسلم، لا يَظْلِمُه، ولا يُسْلِمُه"(متفق عليه)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَحاسدوا، ولا تَناجَشُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَدَابَرُوا، ولا يَبِعْ بعضُكم على بيعِ بعضٍ، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، المسلمُ أَخو المسلمِ، لا يَظلِمُه، وَلا يَخْذِلُه، ولا يَحْقِرُه، التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسبِ امرئ مِنَ الشرِّ أَن يَحقِرَ أَخاهُ المسلمَ، كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ: دَمُه، وَمالُه، وعِرْضُه"(رواه مسلم).
وهذا كلُّه يدل على السلام والمسالَمة، والمصالَحة بين الناس. وفي حديث النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "من أَصبحَ آمنًا في سِرْبِه، معافًى في جَسدِه، عنده قوتُ يومِه؛ فكأنما حيزت له الدُّنيا"(رواه الترمذي). دلالة واضحة على الإنسان لا يكون سعيدًا في هذه الدنيا إلا بالسلام.
السلام مشتَقٌّ من الإسلام:
والملاحَظ أن اسم الإسلام نفسه مشتقٌّ من صميم هذه المادة مادة السلام. والمؤمنون بهذا الدين لم يجدوا لأنفسهم اسمًا أفضل من أن يكونوا المسلمين: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس)[الحج: 78].
وحقيقة هذا الدين ولُبُّه الإسلامُ لرب العالمين: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)[البقرة: 112].
وقال تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ...)[المائدة: 15-16].
السلام تحية المؤمنين:
تحقيقًا لتطبيق وتمكين السلام في عقيدة المسلم بمدلوله اللغوي والاصطلاحي، أمَر الله المؤمنين بأن يتخذوه تحيتهم عند لقائهم ببعضهم، وعند فراقهم، قال تعالى: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 44].
ثم قال: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[النور: 61].
حتى يتعوَّد المؤمنُ على عهد السلام وسلوك طريقه.
الجنة دار السلام وتحية أهل الجنة السلام:
الجنة هي دار السلام ليس فيها نغص ولا حسد ولا فيها مرض ولا فيها قلق ولا فيها خوف ولا فيها منازعة ولا فيها حروب ولا فيها شيء من هذا كله، قال تعالى: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)[يونس: 25ـ26].
وتأكيدًا لتحقيق مبدأ السلام في الأرض بين الناس، فقد كافأ اللهُ الساعينَ فيه والمطبِّقين له عمليًّا بالجنة، وجعل تحيتهم سلامًا، قال الله -تعالى-: (وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ)[الأعراف: 46].
وقال تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ)[إبراهيم 23]، وقال تعالى: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ)[النحل: 32]، وقال تعالى: (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)[الرعد: 23-24].
الإسلام سلام للبشرية:
من منطلق مبدأ السلام الذي يحتوي على أمن الناس وسعادتهم، فإنه عمم أمره بين الإنسانية قاطبة لينشروه، يقول صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس: أفْشُوا السلامَ، وأطعِمُوا الطعامَ، وصِلُوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام"(رواه أحمد، والترمذي والحاكم، وصححه الترمذي والحاكم ووافقه الذهبي).
الخطاب للناس كافة، ثم فضَّلَ من سبق غيره في إقامة السلام، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ الَّذِي بَدَأَهُمْ بِالسَّلامِ"(رواه أبو داود). وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل لرجل أن يَهْجُرَ أخاه فوق ثلاث ليالٍ، يلتقيان: فيُعرض هذا ويُعرض هذا، وخيرُهما الذي يبدأ بالسلام"(الراوي: أبو أيوب الأنصاري، المحدث: البخاري، المصدر: صحيح البخاري).
السلام هدف الإسلام في الأرض:
لقد أكَّد أئمةُ الإسلام أنَّ السلام هو هدف الإسلام وغايته في الأرض، قال تعالى: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ)[يونس: 25]، ويعني السلام في مضمونه العملي، على أساس من مبدأِ العدل والمساواة، والحرية للجميع، بعيدًا عن الأطماع البشرية الخبيثة.
ولا يسمَّى السلامُ سلامًا إذا كان لصالح طرف دون الآخَر، فيكون ظلمًا وذُلًّا، قال الله -تعالى-: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الأنفال: 61].
ومن السلام الإعراض عن الجاهلين، قال تعالى: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)[الفرقان: 63]، وقال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)[الْقَصَصِ: 55].
ومن السلام نشر الأمن والاطمئنان، والقضاء على الخوف والقلق، في نفسية الفرد والجماعة، فقد حرَّم الإسلامُ العدوانَ والتعاون عليه، وأمرنا الله بأن نتعاون على الخير والبِرِّ فقال: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)[المائدة: 2]،
وقدَّم الإسلامُ البراهينَ العمليةَ على أن أسلوب العدوان منبوذ مبتَذَل مرفوض، بقوله -تعالى-: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)[المائدة 2]، كما أن الله مَنَعَ التعاونَ على الشر والعدوان؛ فقد حرَّم العدوانَ مطلقًا، قال تعالى: (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)[البقرة:190]، وشدَّد العقوبةَ على المعتدي، واعتبره تعديًّا على البشرية قاطبةً، ومَن قَتَلَ نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا، وكذلك قال الله -تعالى-: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا)[المائدة: 32]،
فالنفس الإنسانية محتَرَمة في الإسلام، فمَن أهرق دمَ نفس واحدة بدون حقّ فكأنما قَتَلَ الناسَ جميعًا. وقد أمر الإسلامُ بحُسن معاملة الأعداء، مع الحفاظ على العِزَّة والكرامة، وعدم عنادهم في عدائهم، علَّهم أن يعودوا إلى رشدهم فيكفوا عن ظلمهم وعدائهم، فقال الله -تعالى-: (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[فصلت: 34]، فحُسنُ المعامَلَةِ وسلامَةُ الصدر تحوِّل العَدُوَّ العاقلَ إلى صديق عزيز.
وأمر بالعدل مع أَعدائِها، كما قال الله -عز وجل-: (وَلَا يَجْرِمُنَّكُم شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)[المائدة: 8].
وقد أمَرَنا الإسلامُ بأن نحكم الحق العادل في معاملة الناس جميعا، وهذا الصحابي الجليل ربعي بن عامر يصف رسالة الإسلام لقائد جيوش الفرس رستم: "إن الله ابتعثنا بالحق، لنُخرج مَن شاء مِن عبادةِ العبادِ إلى عبادة الله، ومِن ضِيقِ الدنيا إلى سعتها، ومِن جَور الأديان إلى عدل الإسلام".
من السلام حرية الرأي والعقيدة:
أُولِعَ خصومُ الإسلام في كل عصر بتوجيه هذه التهمة؛ أن الإسلام انتشر بحد السيف، والإسلام منها براء؛ فهو لم يُكره الناسَ على الإيمان بالسيف ولم يضعه على رقابهم ليشهدوا بشهادته أو يدينوا بعقيدته، فهذه التهمة باطلة. فمبدأُ السلام لا يقوم إلَّا على المساواة في الحقوق، ولو اختلف الناسُ في العقيدة، فالحياةُ الآمنةُ الحُرَّةُ العادلةُ حقُّ الإنسانِ، ولا يَتَحَقَّقُ له العيشُ بأمنٍ وسلامٍ إلَّا إذا أَمِنَ على ما يعتقد بحرية كاملة، دون إكراه أحدٍ على ما يريد. فكانت كفالة الإسلام لحرية العقيدة لجميع الناس، أثبت ذلك القرآنُ الكريمُ قبل خمسة عشر قرنًا، قال الله -تعالى-: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[البقرة: 256]؛ لأن الدين فيه عقيدة تتحقق بالقناعة، والاطمئنان النفسي لما يعتقد ويؤمن، ولا تتحقق حرية المعتقد للفرد والجماعة، إلا أن تكون بمحض الاختيار والقناعة الذاتية، حتى يظهر من خلالها عدلُ الله يومَ الحساب، فيثيبُ اللهُ المصيبَ صحيحَ الإيمانِ بالجنةِ، ويعاقبُ الشَّاذَّ الكافرَ بالنارِ يومَ القيامةِ، ولا يظلمُ ربُّكَ أحَدًا. وأما في هذه الدنيا فلكل وجهة هو موليها، قال تعالى: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[البقرة: 148]، وله عقيدة سوف يُحاسَبُ عنها، وليس لنا إلا البلاغ والنصح المبين الواضح، قال تعالى: (فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ)[آل عمران: 20]، قال الله -تعالى- يأمر رسوله بأن يقول للكافرين صراحةً: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)[الكافرون: 6]
في هذه الآية يمنح اللهُ حريةَ المعتَقَدِ دون تدخُّل أو إلزام أو جبر، غير أنه -سبحانه- صرَّحَ مُحَذِّرًا الناسَ مِنْ اختيار عقيدةِ الكفرِ بِهِ -سبحانه- بقوله -تعالى-: (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)[البقرة: 108].
وقال أيضًا سبحانه: (وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[النحل: 106]. هذا حكم الله في الآخرة.
وأما في هذه الدنيا: فكلُّ فَردٍ من ذرية آدم له حق اختيار العقيدة التي يريدها، وقد سمح الإسلامُ لجميع الناس؛ بوذيين وغيرهم مهما اختلفت عقائدهم بممارسة طقوسهم التعبدية؛ ففي عهد عمر بن الخطاب إلى أهل إيلياء (القدس) نصَّ على حُريتهم الدينية، وحرمة معابدهم وشعائرهم: "هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملَّتها، لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكْرَهون على دينهم، ولا يُضارَّ أحدٌ منهم. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود..."(كما رواه الطبري).
واعتبر النبي -صلى الله عليه وسلم- السلام مع غير المسلم عبادة نتعبد بها لله -تعالى-؛ فرُوِيَ عنه: "مَن آذى ذِمِّيًا فأنا خصمه، ومن كنتُ خصمه خصمته يوم القيامة"(رواه الخطيب بإسناد حسن). وعنه أيضًا: "مَن آذى ذميًّا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله".(رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن).
ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "من ظلم معاهَدًا أو انتقصه حقًّا أو كلَّفَه فوق طاقته أو أخَذَ منه شيئًا بغير طِيب نفسٍ منه، فأنا حجيجه يوم القيامة"(رواه أبو داود، والبيهقي). ودماؤهم وأنفسهم معصومة باتفاق المسلمين، وقتلهم حرام بالإجماع؛ يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "مَن قَتَلَ معاهَدًا لم يَرَحْ رائحةَ الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا"(رواه البخاري).
وكان عمر -رضي الله عنه- يسأل الوافدينَ عليه من الأقاليم عن حال أهل الذمة، خشيةَ أن يكون أحد من المسلمين قد أفضى إليهم بأذى، فيقولون له: "ما نعلم إلا وفاءً"، وعليُّ بنُ أبي طالب -رضي الله عنه- يقول: "إنما بذلوا الجزيةَ لتكون أموالُهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا"، وما رُوِيَ: "أن عليًّا أُتِيَ برجل من المسلمين قتل رجلًا من أهل الذمة، فقامت عليه البيِّنة، فأمر بقتله، فجاء أخوه فقال: إني قد عفوتُ، قال: فلعلهم هددوك وفَرَقُوكَ، قال: لا، ولكنَّ قَتْلَه لا يرد علَيَّ أخي، وعوَّضوا لي ورضيتُ. قال: أنتَ أعلمُ؛ من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا، وديته كديتنا"(أخرجه الطبراني والبيهقي).
وقد صح عن عمر بن عبد العزيز: أنه كتب إلى بعض أمرائه في مسلم قَتَلَ ذميًّا، فأمره أن يدفعه إلى وَلِيِّه، فإن شاء قَتَلَه، وإن شاء عفا عنه، فدُفِعَ إليه فضرب عنقه. ولقد بلغ سلام الإسلام مع غير المسلمين بأن أمَّنهم عند العجز والشيخوخة، وضَمِنَ لهم في ظل دولته، كفالة المعيشة الملائمة لهم ولمَن يعولونه؛ لأنهم رعية للدولة المسلمة وهي مسئولة عن كل رعاياها، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته"(متفق عليه، من حديث ابن عمر)، وهذا ما مضت به سُنَّة الراشدين ومَن بعدهم؛ فقد رأى عمر بن الخطاب شيخًا يهوديًّا يسأل الناس، فسأله عن ذلك، فعرف أن الشيخوخة والحاجة ألجأتاه إلى ذلك، فأخذه وذهب به إلى خازن بيت مال المسلمين، وأمره أن يفرض له ولأمثاله من بيت المال ما يكفيهم ويصلح شأنهم، وقال في ذلك: ما أنصفناه إذ أخذنا منه الجزية شابًّا، ثم نخذله عند الهَرَمِ!
وفي عقد الذمة الذي كتبه خالد بن الوليد لأهل الحيرة بالعراق، وكانوا من النصارى: "وجعلتُ لهم، أيما شيخ ضَعُفَ عن العمل، أو أصابته آفةٌ من الآفات، أو كان غنيًّا فافتقر، وصار أهل دِينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته، وعِيل من بيت مال المسلمين هو وعياله". وكان هذا في عهد أبي بكر الصِّدِّيق، وبحضرة عدد كبير من الصحابة، وقد كتب خالد به إلى الصِّدِّيق ولم ينكر عليه أحدٌ، ومثل هذا يُعَدّ إجماعًا. والفضل ما شهدت به الأعداء: شهد بذلك رجال الفكر الغربي عن كَثَبٍ:
قال ريتشارد وود: "إن القرآن قد سمح للذميين (غير المسلمين) بحرية ممارسة شعائر دينهم، وأوجب مساواتهم في الحقوق المدنية والجنائية مع سائر الأهالي، ولم يمنع من استشارتهم في مصالح الوطن".
قالت الدكتورة زيغريد هونكه الألمانية: "هذا ما أمر به القرآن الكريم، وبناء على ذلك فإن العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخولَ في الإسلام، فالمسيحيون والزرادشتيون واليهود الَّذِينَ لَاقَوْا قبلَ الإسلامِ أبْشَعَ أمْثِلَةٍ للتَّعَصْبِ الدِّيني وأفظّعَها، سمح (الإسلام) لهم جميعًا دون أي عائق يمنعهم بممارسة شعائرِ دِينِهم بِأدْنى أذْىً...".
وكتب بطريك بيت المقدس بيده رسالتَه إلى بطريك القسطنطينية قال فيها: إن العرب (المسلمين) يمتازون بالعدل، لا يظلموننا البتةَ، وهم لا يستخدمون معنا أي عنف)، وقال كولد تسيهر من كبار علماء الغرب: "روح التسامح في الإسلام قديمًا، تلك الروح اعترف بها المسيحيون".
السلام ليس معناه الاستسلام والضَّعْف، وإنما هو سلام قوة… لا استسلام ضعف؛ لقول الله -تعالى-: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[آل عمران: 139].
وهناك بعض المتعنتين المتكبرين الذين يفسِّرون السلامَ تبعًا لأهوائهم وعنصريتهم ولا يرضخون للحق إذا كان صاحبه ضعيفًا، ويرفضون مبدأ السلام العادل، إذا عارض عنصريتَهم وشهواتهم، فهذا النوع ظالم لنفسه أولًا، ولغيره ثانيًا، وقد أعد الله له عذاب جهنم سعيرًا، وأمرنا الله بالإعراض عنه لكونه جاهلًا للحق الإنساني، قال تعالى: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)[الْفُرْقَانِ: 63].
فإننا نمنح لمثل هؤلاء الجهلة السلام ونبتعد عنهم اتقاء شرهم. أما إذا صمَّم هذا النوعُ على العدوان، ورفَضَ مبدأَ السلام العادل، وبغية خراب البلاد، وإذلال الناس، تكبرًا وتعنتًا، وتعاليًا على الحق، فهذا النوع لا يصلح معه إلا الإعداد بالقوة، وصده عن غيه وضلاله، قال تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ * وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ * وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)[الْأَنْفَالِ: 57-60].
ولقد قرر الله في محكم كتابه المجيد كراهيةَ وتحريم الاعتداء على حقوق الناس وأمنهم، وحض المؤمنين على عدم الاعتداء بقوله -تعالى-: (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)[البقرة: 190]، ثم قرر صدَّ المعتدين، ومعاقبتهم بالمثل، فقال تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)[البقرة: 194].
وإذا قامت الحربُ ضدَّ الظالمين والمعتدين فإن الإسلام لم يُجِزْ لجنود الحق أن يستغلوا قوتهم ونصرهم في صنع الشر، وهتك حقوق الإنسان، فإن من مبادئ حضارتنا في الحرب ألَّا نقاتل إلا من يقاتلنا ويعتدي علينا، وقال الله أيضًا: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[الشُّورَى: 41-42]، ثم إذا قامت الحرب كان علينا ألَّا ننسى مبادئنا، فنقسو ونُفسد ونظلم وننشر الخراب والدمار… كلا...
فالحرب الإنسانية الخالصة لله يجب أن تظل إنسانية في وسائلها وعند اشتداد وطيسها، ومن هنا جاءت الوصايا التي لم يَسبق لها مثيل في التاريخ، قال الخليفة الأول أبو بكر -رضي الله عنه-: "لا تُمَثِّلُوا، ولا تقتلوا طفلًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلًا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرَّغُوا أنفسَهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له".
ولابد من توفر القوانين والشروط التي من خلالها يتم السلام بين الناس كما بيَّنها القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية المطهرة:
فمِن هذه القوانين والشروط الواجب توفرها حتى يتم السلام:
المساواة بين الشعوب بعضها ببعض:ـ
كما في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِير)[الحجرات: 13]. فالإسلام يُقرِّر أنَّ الناسَ -بِغَضِّ النظرِ عن اختلاف معتقداتهم وألوانهم وألسنتهم- ينتمون إلى أصلٍ واحدٍ، فهُم إخوة في الإنسانية. ومنه قول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّكم لآدمَ، وآدمَ من ترابٍ، لا فضلَ لعربيٍّ على أَعْجَمِيٍّ إلا بالتقوى".
الوفاء بالعهود، ومَنْع العدوان، وإيثار السِّلْم على الحرب إلا للضرورة.
ويدل عليه قولُه -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)[المائدة: 1]، وقوله -تعالى-: (وَأَوْفُوا بِالعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا)[الإسراء: 34].
فالأخوة الإنسانية العامة، تُوجِبُ قيامَ العلاقةِ بين الشعوب والأمم على المودَّةِ والوفاء بالعقود والعهود، ما دام الاعتداءُ غيرَ قائم، كما في قوله -تعالى-: (لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الذَّينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُم أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيهِم إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ)[الممتحنة: 8].
إقامة العدل والإنصاف بينهم، ودفع الظلم ، فلا يعتدي أحدٌ على حقِّ أحدٍ، ولا يظلم أحدٌ أحدًا، بل الإنصاف والعدل والمساواة، كلها من ركائز السلام وقواعده.
إن تحقيق السلام يساعِد على استقرار المجتمع بكل طوائفه، بكل أفراده مسلمين وغير مسلمين، ونأخذ الرسول -عليه الصلاة والسلام- مثالا في تحقيق السلام والأمن والطمأنينة في المدينة المنورة بعد هجرته إليها فأول شيء فَعَلَه صلى الله عليه وسلم أنه عقد ميثاق التحالف الإسلامي؛ أي عقد المؤاخاة بين المؤمنين (مهاجرين وأنصار) أولا، ثم بين المسلمين وبين اليهود في المدينة، وكانت من بين بنود السلم معهم: أن اليهود أُمَّة مع المؤمنين، لهم دينهم وللمسلمين دينهم؛ وبذلك استطاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبنى مجتمعا في المدينة يسوده الأمن والسلام، لقد كانت غاية الإسلام أن يجعل العهد في المدينة عهد استقرار وأمن، بعد عهد الاضطراب والخوف في مكة.
وكان الهدف الذى يرمى إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يعيش الجميع في وطنهم آمنين على أنفسهم، وأموالهم، وأعراضهم، وأهليهم، وأن يكونوا أحرارا في عقائدهم وآرائهم، وأن يتعاونوا على البِرِّ والتقوى لا على الإثم والعدوان، وتحقيقُ السلامِ يُظهر مثاليةَ الإسلام، يقول الله -تعالى-: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ …)[البقرة: 256]، من منطلق هذا المبدأ يؤيد الإسلام العدل ويحرم الظلم، بل ويحث على التعاون والرحمة والمودة والمؤاخاة بين الإنسان وأخيه الإنسان. ومن خلال هذا الاحترام الإنساني والعقلي والفكري، لا يُكره الإنسان على ما يعتقده من عقيدة، أو اعتناقه فكرة من الأفكار.
اعلم أيها المسلم: أن السلام لا يتحقق إلا بالإيمان، والإيمان هو إذعان النفس لليقين بالفَرْق بين الخير والشر والفضيلة والرذيلة والحق والباطل والعدل والظلم، والإيمان بأن على الوجود مسيطرًا يرضى بالخير ولا يرضى بالشر، وهو الإله القادر الفرد الصمد الحي القيوم خالق الكون وبارئ النَّسَم ومالك يوم الدين في المعاد، بهذا الإيمان تقوى العزيمة وترتفع الهمة وتسمو النفس البشرية وتنعم بالأمن والطمأنينة وتتخلص من قيود الأهواء الجامحة والمطامع المسيطِرة وآفات التردد والحيرة والارتباك وبواعث القلق والاضطراب، لا سيما عند نزول الشدائد وظلمات الأحداث، سواء في ذلك الأفراد أمِ الجماعات، وإذا توافر السلام بإشراق الإيمان في ربوع النفس اطمأنَّ الإنسانُ واتَّجه إلى معالِم الخير والحق والإنتاج.
=============================
رابط doc
https://top4top.io/downloadf-2499imeu51-docx.html
رابط pdf
https://top4top.io/downloadf-2499fdfby2-pdf.html
23 أكتوبر 2022
22 أكتوبر 2022
بر الأوطان من شمائل الإيمان
الحَمْدُ للهِ الكَرِيمِ المَنَّانِ، الذِي مَنَّ عَلَينَا بِنِعْمَةِ الإِيمَانِ، وَالأَمْنِ فِي الأَوطَانِ، وَالعَافِيَةِ فِي الأَبْدَانِ .. فقال تعالي {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (3)}[قريش] وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، فطر الناس علي حب الأوطان واستخلفه في الأرض لتعمير الكون فقال تعالي {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا (61)}[هود].
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله (ﷺ) سَأَلَ رَبَّهُ الأَمْنَ فِي الوَطَنِ، وَدَفْعَ الفِتَنِ وَالمِحَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، علمنا حب الوطن فقال عند هجرته من بلده {مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ،وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُـونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ} رواه الترمذي.
اللهم صلى علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين .
أَمَّا بَعْـدُ:ـ فَيَا يا أيها المؤمنون..
إِنَّ حُبَّ المَرْءِ لِوَطَنِهِ وَشُعَورَهُ بِالانْتِمَاءِ إِلَيْهِ أَمْرٌ فِطْرِيٌّ وَعَاطِفَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ أَصِيلَةٌ، يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ النَّاسِ عَلَى تَنَوُّعِ أَعْرَاقِهِمْ واختِلاَفِ مَشَارِبِهِمْ، وَالإِسلاَمُ الذِي هُوَ دِينُ الفِطْرَةِ وَالإِنْسَانِيَّةِ لَمْ يَقِفْ فِي وَجْهِ هَذَا المَيْلِ الطَبِيعِيِّ، بَلْ أَقرَّ ذَلِكَ وَعَزَّزَهُ، وَجَعَلَ مِنْهُ سَبِيلاً لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالفِعْـلِ الخَيِّرِ، كَيْفَ لاَ؟
وَقَدْ عَلَّمَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حُبَّهُ لِوَطَنِهِ فِي مَوقِفٍ بَالِغِ التَّأْثِيرِ وَالرَّوعَةِ، عِنْدَمَا وَقَفَ لَيْـلَةَ الهِجْرَةِ عَلَى مَشَارِفِ مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ، والتَفَتَ تِلْقَاءَهَا لِيَبُثَّهَا كَلِمَاتِ الوَدَاعِ الحَارَّةِ قَائلاً:(مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُـونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ)، لَقَدْ كَانَتْ تِلْكَ الكَلِمَاتُ الرَّقِيقَةُ تَعْبِيرًا صَادِقًا عَنْ حُبِّهِ لِوَطَنِهِ الذِي نَشَأَ فِيهِ، وَتَرَعْرَعَ فِي أَكْنَافِهِ، وَتَنَعَّمَ مِنْ خَيْرَاتِهِ، وَأَمْضَى فِيهِ سَنَواتِ شَبَابِهِ وَكُهُولَتِهِ.
وعن حب الوطن ومفهوم الوطنية اختلف الناس بين مؤيد وعارض .
لذلك كان حديثنا عن [بر الأوطان من شمائل الإيمان] وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ...
1ـ مفهوم الوطنية وحقيقة الانتماء للوطن.
2 ـ حب الوطن في الإسلام .
3ـ بر الأوطان من شمائل الإيمان.
========================
العنصر الأول :ـ مفهوم الوطنية وحقيقة الانتماء للوطن :ـ
الوطن :ـ
في اللغة : كما جاء في لسان العرب لابن منظورهو : " المنزل الذي يمثل موطن الإنسان ومحله .. ووَطَنَ بالمكان ، وأوطن : أقام ، متخذاً إياه محلاً وسكناً يقيم فيه .. " .
والوطن الأصلي هو مولد الرجل , والبلد الذي هو فيه .
الوطنية:ـ
هي المشاعر والروابط الفطرية والتي تنمو بالاكتساب لتشد الإنسان إلى الوطن الذي استوطنه وعاش فيه ..
حدود الوطن :ـ
إن حدود الوطن التي تلزم التضحية في سبيل حريته وخيره، لا تقتصر على حدود قطعة الأرض التي يولد عليها المرء؛ بل إن الوطن يشمل القطر الخاص أولاً، ثم يمتد إلى الأقطار الإسلامية الأخرى ومرتبطة بالعقيدة .
حقيقة الانتماء للوطن :ـ
ولأن الإسلام منهاج شامل لمملكة السماء وعالم الغيب وللعمران البشري ، فإن إقامته كدين لا تتأتى إلا في واقع ووطن ومكان وجغرافيا ..
وهذا الواقع والوطن والمكان والجغرافيا لن يكون إسلامياً إلا إذا أصبح الانتماء الوطني فيه بعداً
من أبعاد الانتماء الإسلامي العام ..
فعبقرية المكان ، في المحيط الإسلامي ، هي واحدة من تجليات الإسلام الذي لا تكتمل إقامته بغير الوطن والمكان والجغرافيا ! ..
فالوطنية لم تخرج عن أنها جزء من تعاليم الإسلام .
العنصر الثاني : حب الوطن في الإسلام :ـ
أولا: ماذا يعني حب الوطن :ـ
ـ حب الوطن في الإسلام: لا يعني: العصبيةَ، التي يُراد بها تقسيمُ الأمة إلى طوائفَ متناحرةٍ، متباغضة، متنافرة، يَكِيد بعضها لبعض، قال رسول الله (ﷺ):{مَن قُتل تحت راية عُمِّيَّة، ينصر العصبية، ويغضب للعصبية، فقتلتُه جاهليةٌ}.
ـ حب الوطن في الإسلام: لا يعني: اتِّباعَ القومِ أنَّى ساروا، ونصرَهم على كل حال؛ بل يعني: العدلَ والإنصاف.
وعن عبَّاد بن كثير الشامي، عن امرأةٍ منهم يقال لها: فسيلة، قالت سمعت أبي يقول: سألت النبي (ﷺ) فقلت: يا رسول الله، أمِنَ العصبيةِ أن يحب الرجلُ قومَه؟ قال: لا، ولكن من العصبية أن يُعِينَ الرجلُ قومَه على الظلم) رواه أحمد وابن ماجه.
وقال (ﷺ) [لا تَكونوا إمَّعةً، تقولونَ: إن أحسنَ النَّاسُ أحسنَّا، وإن ظلموا ظلَمنا، ولَكن وطِّنوا أنفسَكم، إن أحسنَ النَّاسُ أن تُحسِنوا، وإن أساءوا فلا تظلِموا ] رواه الترمذي .
ـ حب الوطن في الإسلام: لا يعني الانفصال عن جسد الأمة الإسلامية، أو نسيان مبدأ الإنسانية، فلا ننصر مظلومًا، ولا نغيث ملهوفًا، ولا نعين مكروبًا، ما دام أنه ليس في حدود الوطن، والنبي (ﷺ) يقول: "مَثَلُ المؤمنين في تراحمهم وتوادِّهم وتعاطفهم مثلُ الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تَداعَى له سائر الجسد بالسهروالحمى" متفق عليه.
ثانيا : حب الوطن غزيرة فطرية :ـ
قال أهل الأدب : " إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحننه إلى أوطانه ، وتشوقه إلى إخوانه ، وبكاؤه على ما مضى من زمانه " .
والمحبة للأوطان والانتماء للأمة والبلدان أمرٌ غريزيٌ ، وطبيعةٌ طبعَ اللهُ النفوس عليها ، وحينَ يولدُ الإنسانُ في أرضٍ وينشأُ فيها فيشربُ ماءَها ، ويتنفسُ هواءَها ، ويحيا بين أهلها ؛ فإن فطرته تربطه بها ، فيحبُّها ويواليها ، ويكفي لجَرْح مشاعر الإنسان أن تشير بأنه لا وطن له . وحب الوطن فطرة رفع من شأنها الإسلام ، لذلك اتفق الفقهاء على أن العدو إذا دخل دار الإسلام يكون قتاله فرض عين على كل مسلم .
ومحبة الوطن طبيعة طبع الله النفوس عليها ولا يخرج الإنسان من وطنه إلا إذا اضطرته أمورللخروج منه وهذه بعض الأدلة علي ذلك ...
1- مثل خروج سيدنا إبراهيم ولوط عليها السلام قال سبحانه وتعالى {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ(69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ(70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ(71)}[الأنبياء]. 2- مثل خروج موسى عليه السلام قال تعالى: { وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)}[القصص] .
3- مثل خروج يعقوب عليه السلام وأولاده من فلسطين إلى مصر للانضمام إلى يوسف عليه السلام قال تعالى{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)}[يوسف] .
ولما كان الخروج من الوطن قاسيا على النفس صعبا عليها فقد كان فضائل المهاجرين من الصحابة إنهم ضحوا بأوطانهم قي سبيل الله فللمهاجرين على الأنصار أفضلية ترك الوطن مما يدل على إن ترك الوطن ليس بالأمر السهل على النفس وقد مدحهم الله سبحانه على ذلك فقال تعالى{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)}[الحشر] .
4ـ دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام لوطنه بالأمن والبركة :ـ
ـ لقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن نبيِّه إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام أنه دعا لمكة المكرمة بهذا
الدعاء، قال الله تعالى{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}[البقرة].
ودعاء إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام يُظهِر ما يفيض به قلبُه، مِن حبٍّ لمستقر عبادته، وموطن أهله.
ولقد دعا لمكة بالأمن والرِّزق، وهما أهم عوامل البقاء، وإذا فُقِد أحدُهما أو كلاهما فُقِدت مقوماتُ السعادة، فتُهجَر الأوطانُ، وتَعُود الديارُ خاليةً من مظاهر الحياة.
ولهذا نرى أن الله سبحانه وتعالى شدَّد في عقوبة مَن يُفسِد على الديارِ أمنَها؛ بل جعل عقوبتَه أشدَّ عقوبةً على الإطلاق؛ قال تعالى{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)} [المائدة].
فهل بعد هذه العقوبة من عقوبة؟!
وقد دعا الإسلامُ إلى فِعل كلِّ ما يُقوِّي الروابطَ والصلات بين أبناء الوطن الواحد، ثم بين أبناء الأُمَّة، ثم بين بني الإنسان.
5ـ حنين النبي (ﷺ) وأصحابة إلي الوطن :ـ
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله (ﷺ) لمكة ( ما أطيبك من بلد وما أحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك )
فهو (ﷺ) في مكة يحبها ويكره الخروج منها وعندما هاجر إلى المدينة واستوطنها ألفها ثم لما فتح مكة , وخاف الأنصار أن يقيم فيها قال لهم :( المحيا محياكم والممات مماتكم ) بل كان يدعو الله إن يرزقه حبها ( اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد ) [رواه البخاري].
فما الذي تغير في الأمر انه (ﷺ) عند خروجه من مكة يصرح بحبها وعندما سكن المدينة صرح بحبها أيضا ودعا إن يحبها أكثر من مكة .
وقد صح عنه (ﷺ) في محبه المدينة مالم يرد مثله في مكة .....
وقد تكرر دعاؤه (ﷺ) بتحبيب المدينة إليه ) ومثلما دعا بحبها فقد دعا لها (اللهم اجعل المدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة ) [رواه البخاري ومسلم] .
وقال (ﷺ) ( اللهم بارك لنا في تمرنا وبارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في صاعنا وبارك لنا في مدنا اللهم أن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة , وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعا لمكة ومثله معه ) [رواه مسلم]
وقال تعالي {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ (85)}[القصص]
قال ابن العباس رضي الله تعالى عنهما: إلى مكة رواه الإمام البخاري قال القرطبي رحمه الله تعالى :( قال مقاتل :خرج النبي (ﷺ) من الغار ليلا مهاجرا إلى المدينة في غير الطريف مخافة الطلب فلما رجع إلى الطريق ونزل الجحفة وعرف الطريق الى مكة فاشتاق اليها فقال جبريل عليه السلام إن الله يقول{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} أي إلى مكة ظاهرا عليها ).
ـ وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت :لما أقدم رسول الله (ﷺ) وعك أبو بكر وبلال ، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول :
كل امرئ مصبح في اهله والموت أدنى من شراك نعله.
وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته يقول :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما ما مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل
وقال (ﷺ):اللهم العن شبيبة بن ربيعة , وعتبة بن ربيعة , و أمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء .
فبلال رضي الله تعالى عنه ( يتمنى الرجوع إلى وطنه ).
ثالثا: حب الوطن مقترن بحب النفس والدين :ـ
اقترن حب الديار مع محبة النفس وأن كلا منهما أمر متأصل في النفوس عزيز عليها
قال تعالى {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ (66)}[النساء]
واقترن في موضع أخر بالدين فقال تعالي{لاَيَنْهَـكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَـتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَـرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(8)}[الممتحنة].
واقترن حب الوطن مع الدين , فالبر والعدل مأمور بهما لمن لم يقاتل المسلم على دينه ولم يخرجه من وطنه والجمع بيتهما دليل على تقارب مكانه كل منهما في الإسلام وفي النفوس .
هذا يدل على تأثير الأرض , وعلى أن طبيعة الإنسان التي طبعه الله عليها حب الوطن , والديار ولكن لهذا الحب حدودا يجب ألا يتجاوزها لأن فوق هذا الحب حب آخر أولى منه وأهم وهو حب العقيدة والدين فإذا ما تعارض حب الوطن مع الدين وجب حينئذ تقديم الأعلى وهو الدين وقد يهاجر المسلم من أرضه فرارا بدينه حين لا يستطيع إظهاره , والمحافظة عليه . قال تعالى{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)}[التوبة].
العنصر الثالث: بر الأوطان من شمائل الإيمان:ـ
هذا الوطن محل عبادتنا لربنا , فيه مساجدنا , ومدارسنا وجامعتنا ،وأهلنا ،وعلماؤنا , وأموالنا ،حيث تعلمنا فيه أمور ديننا ودنيانا ، فكان لزاما علينا أن نؤدي واجبنا نحوه ونعرف أن أداؤنا للواجب ليس مِنَّةً ولا تفضلا وإنما واجب وديْن في رقبتنا نُسأل عنه أمام الله تعالي ، ونُؤجر إن وفينا ونُعاقب إن قصرنا ، فمن البر بالوطن أن نقوم بالآتي :ـ
1ـ المحافظة على تديُّن الوطن وصَلاحه، ونشْر الخير بين أبنائه، ومقارعة الفساد، وتجفيف منابعه قدْر الإمكان:ـ
لا بد أن نعلم أن إشاعة الفكر المنحرِف، والمناهج المستوردة بين أبناء وطننا خيانةٌ عظمي لهذا الوطن .
و يعد من أكبر الخيانة للوطنية حينما تتحوَّل بعض وسائل الإعلام إلى وسيلة هدْم للقِيَمِ والأخلاق، والتشتُّت والافتراق، بعيدة عن هُموم مُواطِنيها، ومشاريع الإصلاح في بلدها.
ولن يتم ذلك إلا بالإصلاح الشامل في وطننا ، وفرقٌ كبير بين الصلاح والإصلاح؛ فالصلاح يكون مقدِّمة للإصلاح، فالصالح هو مَن أصلح نفسه، وأقامها على شرع الله عز وجل واكتفى بذلك، أما المُصلِح، فهو الذي تتحقَّق فيه صفة الصلاح، ويؤمن بأن عليه واجبًا لا يقل أهمية عن إصلاح نفسه، ألا وهو إصلاح غيره.
ويعتبر الإصلاح واجب على كل فرد في الوطن ولا اعفاء لأحد، لأن كل فرد مطالب بالإصلاح على الأقل داخل محيط أسرته؛ فقد جعل رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم كلَّ فرد مسؤولاً، والمقصود من المسؤولية هي الإصلاح؛ فيقول النبي (ﷺ){كلُّكم راعٍ، وكل مسؤول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده، ومسؤول عن رعيته} [رواه البخاري ومسلم] .
بل أخذ النبي (ﷺ)العهدَ على أصحابه عند دخولهم في الإسلام بأن يكونوا مُصلِحين، وذلك بالنصح لكل المسلمين، فشرط على كل واحد منهم أن يكون مصلحًا، وذلك بأن يكون ناصحًا، ومن ذلك حديث جَرِير بن عبدالله رضي الله عنه في الصحيحين يقول: "أتيت النبي (ﷺ) قلتُ أبايعك على الإسلام، فشرط عليَّ، (والنصح لكل مسلم)، فبايعتُه على هذا".
• وإذا أردنا النجاة لأوطاننا، فعلينا بالإصلاح؛ فإن الله سبحانه جعل النجاة فيه؛ قال تعالى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)}[هود].
فقال سبحانه مصلحون، ولم يقل: صالحون؛ لأن مجرد الصلاح لا ينجِّي الأمم؛ لأن النبي (ﷺ) سئل؛ كما في في الصحيحين: "أَنَهْلِك وفينا الصالحون، قال:(نعم، إذا كثر الخبث).
وها هم أصحاب السبت، حرَّم الله عليهم الصيد يوم السبت، فكانوا يتحايلون على شرع الله. ونجد الصالحين في هذا المكان انقسموا إلى فريقين:ـ
ـ فريق نقل نفسه إلى درجة الإصلاح، وأنكروا عليهم ما يفعلونه من مخالفتهم لشرع ربهم.
ـ وفريق صالح سكت، بل عاتب مَن أراد الإصلاح، فقالوا لهم{لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)}[الأعراف].
فانظروا إلى عاقبة ذلك، أن نجَّى الله المصلحين؛ فقال سبحانه {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ (165)}[الأعراف].
أي المصلحين،{وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ(165)}[الأعراف].
واختلف المفسرون في الصالحين الذين سكتوا، وفريق منهم على أنهم هلكوا مع من هلك.
• فتعالَوا معًا نرجع للأمة الإسلامية خيريتها ولمصر مكانتها، وذلك بأن نكون مُصلِحين، فما استحق المسلمون الخيرية إلا بالإصلاح؛ قال تعالى{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (110)}[آل عمران].
فقدَّم الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو أساس وركن الإصلاح على الإيمان به؛ لأهميته؛ فكل إنسان خاسر إلا المؤمنَ الصالح المصلح، اقرؤوا معي سورة العصر؛ ففيها بيان الفوز ولكن لمن؟: ﴿ وَالْعَصْرِ(1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}[العصر].
2ـ ترسيخُ القِيَم الاجتماعيَّة:ـ
حتى يعيشَ ذلكم الوطن لحمةً واحدةً، مُتعاوِنين مُتَآلِفين، يُعطَف فيه على الصغير، ويُوقَّر فيه ذو الشَّيبة، وتُسَدُّ فيه الفاقة، يُواسَى فيه المكلوم، ويُناصَح المُخطِئ، ويسعى لقَضاء حاجات المحتاجين؛ حتى يكونَ المجتمع بعد بذلك كالبُنيان يَشُدُّ بعضه بعضًا.
ولما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم الى المدينه كان من أول أعماله (ﷺ) لقيام الكيان المؤمن الأمن و نشر الدعوه وصلاح أحوال المجتمع واستقراره والمؤاخاه بين المهاجرين والانصار وهي تعني أداء مسؤوليه التكاتف والتعاون بين أبناء المجتمع والتآزر لصلاح الدين والوطن .
قال ابن قيم الجوزيه رحمه الله تعالى : ثم آخي رسول الله (ﷺ) بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه وكانوا تسعين رجلا , نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار،وآخي بينهم بالمواساه ... ) .
ومع أن المؤاخاه كانت على المواساة فإن الأنصار رضوان الله تعالى عليهم لم يكتفو بها فقد قاموا بالمساواه فكان الأنصاري يقسم ماله نصفين يأخذ نصفها له ويعرض على المهاجري النصف الآخر كما في قصه سعد بن الربيع مع عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما , وقد قابل عبدالرحمن رضي الله تعالى عنه هذا العرض السخي بالتعفف.
وهذه صفات المجتمع المسلم التازر والتعاون فيما بينهم ولم يجد العدو حينئذ ثغره ينفذ منها في ايقاع الشحناء , والفرقه والنزاع بينهم. ولن نجد أنكى في العدو من التلاحم , والتكاتف ووعي أبناء الوطن لتربص العدو وترقبه في إضعاف جانب التكاتف فيما بينهم .
3ـ الحفاظ علي أمن الوطن :ـ
الأمن والأمان مَطلَبٌ تَصغُر دُونه كثيرٌ من المطالب، وتهون لأجله كثيرٌ من المتاعب، الأمن في الأوطان لا يُشتَرى بالأموال، ولا يُبتاع بالأثمان، ولا تفرضه القوَّة، ولا يُدرِكه الدهاء؛ وإنما هو منَّة ومنحَة من الملك الديَّان رب العالمين قال تعالي{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)}[قريش].
بالأمن والأمان تعمر المساجد وتصفو العبادة، ويُنشَر الخير وتُحقَن الدماء، وتُصان الأعراض وتُحفَظ الأموال، وتتقدَّم المجتمعات وتتطوَّر الصناعات.
الأمن في البلاد مع العافية والرِّزق هو الملك الحقيقي، والسعادة المنشودة؛ قال (ﷺ){مَن أصبح منكُم آمنًا في سِربِه، مُعافًى في بدنه، عنده قُوتُ يومه، فكأنما حِيزَتْ له الدنيا بِحَذافِيرها}.
إذا خلَتِ البلاد من الأمن، فلا تسَلْ عن الهرج والمرج، إذا ضاعَ الأمن حلَّ الخوف وتَبِعَه الفقر، وهما قرينان لا ينفكَّان؛ قال سبحانه عن القرية التي كفَرتْ بأنعُم الله: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112)}[النحل].
فالأمن والاستقرار إذَا من أهمِّ مُقوِّمات العيش ومطالب الحياة، والواقع والتاريخ يُؤكِّد هذا كلَّه، فالبلاد الآمنة يُرحَل إليها، وتزدهر معيشتها، وتهنأ النُّفوس بالمكث فيها. ولذا كان من النعيم المستلذِّ به عند أهل الجنَّة نعيمُ الأمن والأمان ؛ قال تعالي {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ(37)}[سبأ]. وفي المقابل حينما تخلو الدِّيار من الأمن والأمان، تُصبِح أرضًا موحشةً، وإنْ كان فيها ما فيها من النعيم والخيرات، بل إنَّ التشريد بين الأنام، واللجوء إلى الخيام، ليُصبِح أهنأ وأهون من هذا المقام.
قال تعالي{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)}[العنكبوت].
4ـ العمل الجاد:ـ
كل مواطن في البلد هو في الحقيقه جندي من جنودة والاسلام يخاطب المؤمنين في الدعوة والجهاد والسعي الى العمل الصالح دون تفريق بين الفرد واخر فليس هناك جنود مسؤولون عن الوطن وآخرون ينعمون بخيراته ولا يتحملون مسؤوليه اتجاهه .
والعمل الصالح من الإيمان كما هو في كثير من الآيات في الكتاب الكريم قال تعالى {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ(62)} [البقرة ].
وقال تعالى{ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)} [المائدة] .
وقال تعالى{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً(97)}[النحل].
وغيرها من الايات الكثيرة التي ربطت بين الايمان والعمل الصالح فلابد من الانتماء الذي اشرنا اليه من الالتزام بالسلوك والعمل وهاذ العمل لا يحد بنوع معين وإنما هو متروك الامكانيات الشخص وقدراته ومؤهلاته وهو تنوع يتيح تكاملا في العطاء ويتطلب ابتداء اتسشعار الواجب اتجاه الوطن وأن القادر غير معذور إطلاقا عن الاسهام في الواجب وفق اللبنة التي يتمكن من وضعها في بناء وطنه.
وإن من خير الأعمال ماعم نفعه وأدني الأعمال ما اقتصر عمل صاحبه علي نفسه.
5 ـ تشجيع المشاريع الإقتصادية من أجل رفعة الوطن:ـ
شجَّع رسول الله (ﷺ) المشاريع الاقتصادية بين المسلمين، وحثَّهم على المزارعة، كما فعل الأنصار مع إخوانهم المهاجرين الفقراء، الذين قَدِموا على المدينة بلا أدني مال، فعن أبي هريرة أنه قال: قالت الأنصار للنبي (ﷺ) : اقسمْ بيننا وبَيْن إخواننا النَّخِيلَ. فقال: "لا". فقالوا: تَكْفُونَا الْمُؤْنَة, وَنَشْرَككُمْ في الثمرة. قالوا: سمِعْنا وأطَعْنا.(رواه البخاري) .
من الشخصيات العصامية في المسلمين الأوائل ...
سيدنا عبدالرحمن ابن عوف ، لقداستطاع أن يكون ثروة واسعة، بعد أن ترك دياره وأرضه وأمواله،وكان يقول: لو رفعت حجرًا لوجدت تحته ذهبًا، وقال عنه بعض المؤرخين: : كان تاجرا مجدودا في التجارة وكسب مالا كثيرا وخلف ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس ترعى بالبقيع وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحًا فكان يدخل منه قوت أهله سنة.
كان له دور في تأسيس الاقتصاد الاسلامي ، وبناء الوطن وإطلاق أسواق تنهي احتكار اليهود للتجارة فأنشأ سوقا للمسلمين في المدينة.
إذ كان اليهودُ قبل الهجرة يحتكرون التجارةَ فيها، ويسيطرون على معظمِ الموارد. وقد أرادَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم إنهاءَ هذا الاحتكارِ والهيمنة، وتشجيعَ أثرياءِ المسلمين على مزاولة النشاط الاقتصادي.
من أبرز المسلمين الذين كانَ لهم فضلٌ في إنشاء سوقٍ في المدينة المنورة الصحابيُ الجليل عبدُ الرَّحمنِ بنُ عوف.
ومَلَكَاته التجارية، لم تظهر في المدينة فحسب، بل كان له نشاطٌ تجاري كبير في مكةَ قبلَ الهجرة. كان عبدُ الرَّحمنِ بن عوف من أوائل الذين آمنوا بالنبي (ﷺ) وساهمت إمكاناتُه الماليةُ في مساندةِ الدعوةِ وفقراءِ المسلمين.
فأين أصحاب رؤس الأموال اليوم من عبدالرحمن ابن عوف ومعاناة الكثير من فقراء المسلمين . وقد كان المهاجرون والأنصار، يعملون في الزراعة، أوفي التجارة أو في الحطب، أو في الاستيراد، أو في غير ذلك، وكلهم كانوا مثل عبد الرحمن بن عوف، حتى نتج عن ذلك نشاطٌ اقتصاديٌ واسعُ النطاق .
إن الأمة التي تعمل تقود ولا تقاد ، تسود ولا تساد ، تتكلم فيسمع لها ، تأمربأمر الله فتطاع ، وتنهى بنهي الله فلا تعصى، تذل لها الأمم وتدين لها الدول، وكانت مضرب المثل بين الأمم،
ويشار إليها بالبنيان، ويتحقق لها النجاج ، والهيبة والمنعة.
إن الأمة المنتجة قوية ولها منعة ويهابها أعدائها ، والأمة المستهلكة ضعيفة وتكون ألعوبة في أيد أعدائها .
لقد زار سيدنا عمرابن الخطاب رضي الله عنه، بلدة فرأى أكثر الفعاليات الاقتصادية بيد غير المسلمين، فعنفهم أشد التعنيف، فقالوا: لقد سخرهم الله لنا، فقال لهم قبل ألف وأربعمائة وسبع وثلاثون عاما: كيف بكم إذا أصبحتم عبيداً عندهم؟
لقد أدرك الخليفة العملاق قبل ألف وأربعمائة وسبع وثلاثون عاما أن المنتج قوي والمستهلك ضعيف،أصبحنا الآن نستورد كل شيئ من الإبرة حتي الصاروخ ، لذلك يجب أن نعمل ونعمر ونبني ونجتهد قدر المستطاع.
إن تقدم الأمة في الصناعات المختلفة وريادتها في الأعمال المبتكرة يحقق لها المنعة من الأعداء المتربصين بها والطامعين في ثرواتها وكنوزها .
الدفاع عن الوطن ضد أي عدوان:ـ
يقول الله تعالى في قصة طالوت وجالوت {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)}[البقرة ].
فدلالات هذه الآية تشير الى أهميه القتال من اجل الديار والأبناء فيما لا يتعارض مع الإسلام وان هذا جهاد في سبيل الله .
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن الرسول الله (ﷺ) قال (من قتل دون ماله فهو شهيد ).
ومن أغلى الأموال الأرض التي نسكنها ونحيا عليها ولا يصح أن نفرط في أوطننا وأراضينا بل الحفاظ عليها أمر واجب شرعا .
وأخيرا ..
اللهم اعصم دماء المسلمين وأموالهم وجنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن واصرف عنهم شرارهم وجميع بلاد المسلمين ، اللهم اكفنا شر الأشرار وكيد الفجار وطوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن.
اللهم آمين . والحمد لله رب العالمين .
================