الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآَخِرَةِ وَهُوَ
الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ
فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ...(سبأ1) .
فنحمده سبحانه وتعالي علي نعمة الإسلام العظيم ونشكره أن هدانا للقرآن الكريم
ولولاه ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا ونتوب إليه ونستغفره ونعوذ به من شرور
أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ،من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو
علي كل شيء قدير .. الذي أقرت له بالربوبية جميع مخلوقاته، وأقرت له بالألوهية
جميع مصنوعاته،فشهد الجميع بوحدانيته وقدرته فقال تعالي (الذين يذكرون الله
قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا
باطلا سبحانك فقنا عذاب النار.[آل عمران:191].
وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم ..القائل فيما ورد عنه
("تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذاته، فإنكم لن تقدروا "
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .......
أما بعد : فيا أيها المؤمنون
أهمية العقل ودوره :
فقد خلق الله الإنسان وخلق له عقلا، يدرك به الأمور، ويميز به بين النافع
والضار، والصالح والفاسد، والخير والشر، وجعل مناط التكليف على وجود هذا العقل،
فإذا اختل العقل ارتفع التكليف عنه. وقد أمر الله تعالى الإنسان أن يستخدم هذا العقل،
الذي أنعم به عليه فيما يعود عليه بالنفع، يستخدمه في التفكر فيما حوله من
المخلوقات العظيمة من أمامه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوقه
ومن تحته، بل يتفكر في خلق نفسه، فانقسم الناس في ذلك إلى أقسام، وخير هذه الأقسام
من وصفهم الله بقوله سبحانه: الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون
في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار.
[آل عمران:191].
وشر هذه الأقسام من قال الله فيهم: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب
لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم
أضل أولئك هم الغافلون.[الأعراف:179] .
بل إن تعطيل السمع والبصر والفؤاد ينزل بالإنسان من أفق الإنسانية العاقلة إلى
حضيض البهيمية الغافلة، بل يجعل الإنسان أضل سبيلاً من الأنعام؛ لأنها لم تؤت ما أوتى
من قوى التمييز والإدراك، فكان جديرًا أن يكون من حطب جهنم كما أخبر الله عز وجل .
ولقد عاب الله تعالي على المشركين اتباعهم للظن في تكوين العقائد التي لا يغني فيها
إلا اليقين القائم على البصيرة والبرهان. وفي ذلك بخطابهم فيقول في شأن آلهتهم:
(إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا
الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ) (النجم: 23).
ويقول في هذا السياق نفسه: (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي
مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) النجم : 28
إن من أراد أن يعرف فكرة صحيحة كاملة عن دقائق جهاز ما، وعن الغاية من
صنعه، فلابد أن يأخذها من صانعه نفسه، والله تعالى هو صانع هذا الكون،
علوية وسفلية،بمن فيه وما فيه، وما نبصره وما لا نبصره، وهو وحده القادر على أن
يمدنا بالحقائق الصادقة عن هذا الوجود وأسراره وغاياته: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ) (الملك: 14)
فيتبين بهذا أن التفكر في خلق الله تعالى من صفات المؤمنين الصادقين، أولي الألباب،
وأصحاب العقول السليمة الراشدة فينبغي للمسلم أن يعتني به، فإن الإنسان مع طول
الزمن والغفلة قد يتبلد إحساسه، فيغفل عن النظر والتفكر فيما حوله من المخلوقات
العظيمة في هذا الكون.
أثر التفكر علي الإيمان :-
عباد الله:
إن التفكر في خلق الله تعالى ليزيد الإيمان في القلب ويقويه ويرسخ اليقين،
ويجلب الخشية لله تعالى وتعظيمه، وكلما كان الإنسان أكثر تفكرا وتأملا في
خلق الله وأكثر علما بالله تعالى وعظمته كان أعظم خشية لله تعالى كما
قال سبحانه: إنما يخشى الله من عباده العلماءُ [فاطر:28]
ولهذا كان السلف الصالح على جانب عظيم من هذا الأمر فكانوا يتفكرون في خلق
الله ويتدبرون آياته ويحثون على ذلك،يقول أحدهم: ما طالت فكرة امرئ قط إلا
فَهِمَ، ولا فهم إلا علم، ولا علم إلا عمل. ويقول الآخر: لو تفكر الناس في عظمة
الله لما عصوه.
والفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك، ولذلك كان التفكر من أفضل العبادات،
فهو يورث الحكمة ويحيى القلوب، ويغرس فيها الخوف والخشية من الله عز وجل.
قال أبو سليمان الداراني: " إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شئ إلا رأيت
لله فيه نعمة ولى فيه عبرة"..
ولما سئلت أم الدرداء عن أفضل عبادة أبى الدرداء؟ قالت التفكروالاعتبار.
وعن محمد بن كعب القرظى قال: لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بـ"إذا زلزلت والقارعة"
لا أزيد عليهما وأتردد فيهما وأتفكر أحب إلى من أن أهز القرآن ليلتي هزا أو قال أنثره
نثرا.
وعن طاووس قال: "قال الحواريون لعيسى ابن مريم: يا روح الله هل على الأرض
اليوم مثلك؟ فقال: نعم من كان منطقه ذكرا ً وصمته فكرا ً ونظره عبرة فإنه مثلي".
عباد الله:
إذا نظر العبد إلى ما خلق الله تعالى في هذا الكون من المخلوقات العظيمة،
والآيات الكبيرة، فإن في كل شيء له آية تدل على أنه سبحانه إله واحد كامل العلم
والقدرة والرحمة.
وقد كثر الحديث في كتاب الله تعالى على الاعتبار والتدبر والنظر والتفكر قال تعالي:
( يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَُ (البقرة: 219)
وقال: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ (الأنعام: 50)
وقال: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ
وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (الروم: 8)
وعن عطاء قال " دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة، فقالت لعبيد بن عمير قد آن
لك أن تزورنا، فقال أقول يا أمه كما قال الأول "زُر غِبًّا تزدد حبًّا"، قال فقالت: دعونا
من رطانتكم هذه، قال ابن عمير: أخبرينا بأعجب شئ رأيته من رسول الله صلي الله
عليه وسلم قال: فسكتت، ثم قالت: لما كانت ليلة من الليالي قال: ياعائشة ذريني أتعبد
الليلة لربي قلت والله إني لأحب قربك وأحب ما سرك، قالت: فقام فتطهر ثم قام
يصلي قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجره، قالت ثم بكي فلم يزل يبكي حتى بل
لحيته، قالت: ثم بكي فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة،
فلما رآه يبكي قال يا رسول الله لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال:
"أفلا أكون عبدا ً شكورا ً، لقد نزلت على الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها )
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ
( آل عمران: 190)..
ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل ذكر الله خاليا ً ففاضت
عيناه " رواه البخاري ومسلم.
والسنن والآثار كثيرة في هذا المعنى وكلها دالة على ما كان عليه النبي صلى الله
عليه وسلم من تفكر وتدبر..
فعن الحسن قال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة. وقيل: كان لقمان يطيل الجلوس وحده،
فكان يمر به مولاه فيقول: يا لقمان إنك تديم الجلوس وحدك فلو جلست مع الناس كان
آنس لك، فيقول لقمان: إن طول الوحدة أفهم للفكر وطول الفكر دليل على طريق الجنة.
وعن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - أنه بكى يوماً بين أصحابه فسئل عن ذلك
فقال: فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها بها ما تكاد شهواتها تنقضي
حتى تدركها مرارتها، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ
لمن ادكر.
إن التفكر في ملكوت السموات والأرض من شانه أن يهدى الحيارى، ففي كل شئ له
آية تدل على أنه الواحد تعالوا بنا تأمل عجيب قدرة الله في خلقه، وكيف يسير
الكون بنظام دقيق ربما يكون سببا في زيادة إيماننا .
قال تعالى (لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ( "يس:40". )
وقال تعالى(صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون ) النمل 88 .
تأمل في الوجود بعين فكر *** ترى الدنيا الدنيئة كالخيال
ومن فيها جميعًا سوف يفنى *** ويبقى وجه ربك ذو الجلال تأمَّل
واطعن برمح الحق كل معاندٍ *** واركب جواد العزم في الجولان
واجعل كتاب الله درعًا سابغًا *** والشرع سيفك وابْدُ في الميدان
فمن آياته خلق السموات والأرض :
فمن نظر إلى السماء في حسنها وكمالها وارتفاعها وعظمتها، عرف بذلك تمام
قدرته سبحانه: أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها ،
[النازعات:27-28] والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون ، [الذاريات:47]
أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لهم من فروج [ق:6] .
أخرج أبو داود وغيره عن العباس رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلي الله عليه
وسلم -: (هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: بينهما
خمسمائة سنة ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة ،وكثف – أي سمك – كل
سماء مسيرة خمسمائة سنة - وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما
بين السماء والأرض والله تعالى فوق ذلك وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم).
والأرض وما جعل الله تعالى فيها من الرواسي والأقوات والخلق الذي لا يحصيه إلا
الله تبارك وتعالى.
فانظر كيف مهدها الله وسلك لنا فيها سبلا وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها
وقدر فيها أقواتها ويسرها لعباده فجعلها لهم ذلولا يمشون في مناكبها ويأكلون من
رزقه، وانظر كيف جعلها الله تعالى قرارا للخلق لا تضطرب ولا تزلزل بهم إلا بإذن
الله تعالى: (وفي الأرض آيات للموقنين )[ الذاريات:20] .
ولقد أخبرنا الله تعالى في كتابه أنه خلق هذه السماوات العظيمة وهذه الأرض وما
بينهما في ستة أيام، ابتدأ خلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي من فوقها وهيأها
لما تصلح له من الأقوات في يومين آخرين فتلك أربعة أيام ثم استوى إلى السماء وهي
دخان فسواهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها فتلك ستة أيام ..
وهو سبحانه لو شاء لخلق السماوات والأرض وما بينهما في لحظة: (إنما أمره إذا أراد
شيئا أن يقول له كن فيكون) [يس:82]، ولكنه سبحانه حكيم يقدر الأمور بأسبابها.
حكى الحافظ ابن كثير – رحمه الله – أنه سُئل أحد الأعراب فقيل له: ما الدليل على
وجود الرب تعالى، فقال: يا سبحان الله إن البعرة ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام
ليدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا يدل
ذلك على وجود اللطيف الخبير؟!.
ومن آياته: ما بث في السماوات والأرض من دابة، ففي السماء ملائكة لا يحصيهم إلا
الله تعالى أخرج الترمذي وابن ماجة وأحمد بسند حسن عن أبي ذر رضي الله
عنه - قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (أطت السماء وحق لها أن تئط
ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى)
جاء في الصحيحين عن النبي صلي الله عليه وسلم : (إن البيت المعمور الذي
فوق السماء السابعة يطوف به كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة).
وروى أبو داود وغيره بسند صحيح عن جابر رضي الله عنه- أن رسول الله صلي الله
عليه- قال: (أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش ما بين
شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة).
وفي الأرض من أجناس الدواب وأنواعها ما لا يحصى أجناسه فضلا عن أنواعه
وأفراده فانظروا أولا كم على هذه الأرض من البشر من بني آدم، ليسوا بالآلاف
ولا حتى بالملايين، بل بالمليارات آلاف الملايين، ومع ذلك فألسنتهم وألوانهم مختلفة
فلا تجد شخصين متشابهين من جميع الوجوه كما قال تعالى: (ومن آياته خلق السماوات
والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين).الروم.
يقول ابن كثير رحمه الله -:(فجميع أهل الأرض بل أهل الدنيا منذ أن خلق الله آدم
إلى قيام الساعة: كل له عينان وحاجبان وأنف وجبين وفم وخدان، وليس يشبه واحد
منهم الآخر. بل لابد أن يفارقه بشيء من السمت أو الهيئة أو الكلام ظاهرا كان أو خفيا
يظهر بالتأمل، ولو توافق جماعة في صفة من جمال أو قبح لابد من فارق بين كل
منهم وبين الآخر). ا.هـ.
ثم انظر ما على هذه الأرض من أصناف الحيوانات التي لا يحصيها إلا الله تعالى!
كم على اليابسة فقط من أصناف هذه الحيوانات؟ وكم في هذه البحار والمحيطات
من أصناف الحيوانات؟ وهي مع ذلك مختلفة الأجناس والأشكال والأحوال فمنها
النافع للعباد الذي يعرفون به كمال نعمة الله عليهم ومنها الضار الذي يعرف به
الإنسان قدر نفسه وضعفه أمام خلق الله، وهذه الدواب المنتشرة في البراري والبحار
تسبح بحمد الله وتقدس له وتشهد بتوحيده وربوبيته
(تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده
ولكن لا تفقهون تسبيحهم)الإسراء 44.
وكل دابة من هذه الدواب وكل صنف من هذه الحيوانات خلق لحكمة بالغة فلم يخلق
شيء من هذا الكون عبثا قطعا: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن
الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار )(ص)
وقد تكفل الله برزق هذه الدواب ويعلم مستقرهاومستودعها:( وما من دابة في الأرض
إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها في كتاب مبين ) هود 6.
وقال تعالي ( الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء ) غافر.
فلولا هذه الجاذبية التي تربطنا بالأرض لطرنا عن ظهرها وانتثرنا انتثارا نحن وبيوتنا
ومن آياته الرياح :ـ
هذه الرياح اللطيفة التي يرسلها الله تعالى فتحمل السحب الثقيلة المحملة بالمياه
الكثيرة ويسوق الله هذا السحاب ثم يؤلف بينه فيجمعه حتى يتراكم كالجبال فيحجب
نور الشمس لكثافته وتظلم الأرض من سواده وتراكمه وتراه يتجمع وينضم بعضه
إلى بعض سريع بإذن الله وإذا شاء أن يفرقه سريعا أصبحت السماء صحوا وفي ذلك
أعظم الدلالة على عظمة خالقها ومصرفها ومدبرها ولذلك فقد أقسم سبحانه
وهو سبحانه إذا أقسم بشيء من مخلوقاته دل ذلك على عظمة المقسم به كما قال سبحانه:
(والذاريات ذرواً )، ومعنى الذاريات أي الرياح: (فالحاملات وقراً )، أي: السحاب التي
تحمل وقرها من الماء. وهذه الرياح وهذا السحاب مسخر بأمر الله تعالى لا يتجاوز ما
أمره به خالقه ومنشئه سبحانه وتعالى.
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس –رضي الله عنه - قال: أصابت الناس
سَنة على عهد النبي صلي الله عليه وسلم- أي شدة وجهد من الجدب وعدم نزول المطر
قال: فبينما النبي صلي الله عليه وسلم –- يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال
يا رسول الله: هلك المال، وجاع العيال، وانقطعت السبل فادع الله لنا. فرفع النبي
صلي الله عليه وسلم - يديه، يقول أنس: وما نرى في السماء قزعة أي قطعة سحاب
يقول: فو الذي نفسي بيده ما وضع يديه حتى ثار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن
منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته صلي الله عليه وسلم.
سبحان الله العظيم!
صعد النبي صلي الله عليه وسلم المنبر وما في السماء من قزعة
سحاب وما نزل إلا والمطر يتحادر من لحيته!.
فسبحان الله! إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون.
يقول انس –رضي الله عنه-: مطرنا يومنا ذلك، ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى
الجمعة الأخرى. فقام ذلك الأعرابي أو قال غيره، فقال: يا رسول الله !تهدم البناء،
وغرق المال، فادع الله لنا. فرفع النبي –صلي الله عليه وسلم- يديه وقال:
(اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر).
يقول أنس –رضي الله عنه-: فما يشير–صلي الله عليه وسلم بيده إلى ناحية من السماء
إلا انفرجت، فتمزق السحاب فما نرى منه شيئا على المدينة وسال الوادي شهرا ولم
يجئ أحد من ناحيته إلا حدَّث بالجود: (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه
في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من
يشاء من عباده إذا هم يستبشرون وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين
فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو
على كل شيء قدير) الروم 48،49،50.
تأمل عالم البحار : ــ
تأمل معي أخرى كيف مد الله البحار ، وخلطها ، وجعل مع ذلك بينه حاجزاً
ومكاناً محفوظاً ، فلا تبغي محتويات بحرٍ على بحر ، ولا خصائص بحرٍ على آخر
عندما يلتقيان ، (إن في ذلك لآياتٍ لأولي النهى) في أنهار عندما تلتقي بمياه البحر
ترجع مياهها عائدة إلى مجاريها التي جاءت منها ، ونهر يجعل مياه المحيط الأطلسي
عذبة لمئات الكيلو مترات من مصبه فيه فلا يختلط بمياه المحيط الأطلسي ، وتلتقي
مياه المحيط الأطلسي بمياه البحر الأبيض فتبقى مياه البحر الأبيض أسفل لثقلها
ولكثرة ملحها وتعلو مياه المحيط لخفتها ، وكل بمقدرة ، وكذلك لا تختلط مياه البحر
الأسود بمياه البحر الأبيض عندما تلتقي بل تشكل مجريين متلاصقين فوق بعضهما
البعض ، فمياه الأسود تجري في الأعلى نحو مياه البحر الأبيض لأنها أخف ،
ومياه البحر الأبيض تجري في الأسفل لأنها أثقل فتجري نحو البحر الأسود ،
فتبارك الذي (مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخاً
وحجراً محجورا لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يشركون )
عجائب البحر أعظم من أن يحصيها أحد إلا الله ، كشف علماء البحار من النصف
الثاني من القرن العشرين أن في البحار أمواجاً عاتية دهماء مظلمة حالكة ،
إذا أخرج المرء يده لم يكد يراها فعلى عمق ستين متراً عن سطح البحر يصبح كل
شيء مظلماً في البحار ، بمعنى أننا لا نستطيع رؤية الأشياء في أعماق تبعد ستين متراً
عن سطح البحر ، ولذلك زود الله الأحياء البحرية التي تعيش في أعماق البحار اللجية
بنور تولده لنفسها ومن لم يجعل الله له نوراً في تلك الظلمات فما له من نور ،
نسي هؤلاء المكتشفون أن اللهذكر تلك الظلمات في قوله قبل أن يخلقوا وآباؤهم
وأجدادهم (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب
ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما
له من نور) (النور)
تُرْجِمَ معنى هذه الآية لعالم من علماء البحار أفنى عمره في ذلك وظن أنه
على شيء وأنه اكتشف شيئا وجاء بشيء فيه إبداع فقال في دهشة بعد ترجمة الآية :
إن هذا ليس من عند محمد الذي عاش حياته في الصحراء ، ولم يعاين البحر
ولججه وظلماته وأمواجه وشعبه ، إن هذا من عند عليم خبير ثم شهد شهادة الحق ودخل
في دين الله ، نعم لا يملك إلا ذلك ، من واصف الظلمات في قعر البحار سوى الله
العليم الباري ، سبحانه ملكاً على العرش استوى وحوى جميع المُلْكِ والسلطان ،
لا إله إلا الله كيف تعمى العيون وتعمى القلوب عن آيات الله ، أإله مع الله ، تعالى الله.
سأل رجل أحد السلف عن الله ، قال له :ألم تركب البحر؟ ، قال : بلى ، قال فهل حدث
لك مرة أن هاجت بكم الريح عاصفة قال نعم ، قال وانقطع أملك من الملاحين
ووسائل النجاة ، قال نعم ، قال فهل خطر ببالك وانقدح في نفسك بأن هناك من يستطيع
أن ينجيك إن شاء ، قال نعم ، قال فذاك هو الله لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً ،
(هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرينا بهم بريح طيبة
وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموت من كل مكان وظنوا أنه أحيط بهم
دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم
إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة
الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون) يونس22،23
ومن عجائب البحر التي تدل على إدراكه وعبوديته لله جل وعلا أنه يعظم عليه أن
يرى ابن آدم يعصي الله عز وجل مع حلم الله عليه فيتألم البحر لذلك ويتمنى هلاك
عصاة بني آدم بل ويستأذن ربه في ذلك ، جاء في مسند الإمام أحمد فيما روي عن عم
ر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" ليس من ليلة إلا والبحر يشرق فيها ثلاث مرات يستأذن الله أن ينتضح عليهم ـ
أي على العصاة ـ فيكفه الله بمنه وكرمه "،
فلا إله إلا الله ، البحر يتمعر ، ويتمنى إغراق العصاة ، ويستطيع لكنه مأمور ،
ومنا من لا تحرك فيه المعصية ساكنا ، تُنْتَهَك حرمات الله ، وتُتَجَاوز حدوده ،
وتُضَيَّع فرائضه ، ويعادى أولياؤه ، ثم لا تتمعر الوجوه ، فأين الإيمان يا أهل الإيمان؟
إن في ذلك لآية وكم لله من آية ، فتأملوا يا أولي الألباب .
والكون من آياته، والآفاق من آياته، تشهد بوحدانيته. إن تأملت ذلك عرفت حقًا كونه
موحدًا خالقًا؟ وكونك عبدًا مخلوقًا، الكون كتاب مسطور ينطق تسبيحًا وتوحيدًا،
وذراته تهتف تمجيدًا: (هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ)(لقمان 11).
لله في الآفاق آيات لعل *** أقلها هو ما إليه هداك
ولعل ما في النفس من آياته *** عجب عجاب لو ترى عيناك
والكون مشحون بأسرار إذا *** حاولْتَ تفسيرًا لها أعياك
قل للطبيب تخطَّفته يد الردى *** من يا طبيب بطبِّه أرْدَاك؟
قل للمريض نجا وعُوفيَ بعدما *** عجزت فنون الطب من عافاك؟
قل للصحيح يموت لا من علة *** من بالمنايا يا صحيح دهاك؟
قل للبصير وكان يحذر حفرة *** فهَوَى بها من ذا الذي أهواك؟
بل سائل الأعمى خَطَا بين الزحام *** بلا اصطدام من يقود خطاك؟
قل للجنين يعيش معزولا بلا *** راعٍ ومرعى ما الذي يرعاك؟
قل للوليد بكى وأجهش بالبكاء *** لدى الولادة ما الذي أبكاك؟
وإذا ترى الثعبان ينفث سمَّهُ *** فاسأله من ذا بالسموم حَشَاكَ؟
واسأله كيف تعيش يا ثعبان *** أو تحيى وهذا السمُّ يملأ فَاكَ؟
واسأل بطون النَّحل كيف تقاطرت *** شهدًا وقل للشهد من حلاَّك؟
بل سائل اللبن المُصَفَّى كان *** بين دم وفرث ما الذي صفَّاك؟
وإذا رأيت الحي يخرج من *** حَنَايا ميتٍ فاسأله من أحياك؟
قل للهواء تحثُّه الأيدي ويخفى *** عن عيون الناس من أخفاك؟
قل للنبات يجفُّ بعد تعهُّدٍ *** ورعاية من بالجفاف رَمَاك؟
وإذا رأيت النَّبت في الصحراء *** يربو وحده فاسأله من أَرْبَاكَ؟
وإذا رأيت البدر يسري ناشرًا *** أنواره فاسأله من أسْرَاك؟
واسأل شعاع الشمس يدنو وهي *** أبعد كل شيء ما الذي أدناك؟
قل للمرير من الثمار من الذي *** بالمرِّ من دون الثمار غذاك؟
وإذا رأيت النخل مشقوق النوى *** فاسأله من يا نخل شقَّ نواك؟
وإذا رأيت النار شبَّ لهيبها *** فاسأل لهيب النار من أوراك؟
وإذا ترى الجبل الأشَمَّ مناطحًا *** قِمَمَ السَّحاب فسَلْه من أرساك؟
وإذا ترى صخرًا تفجر بالمياه *** فسله من بالماء شقَّ صَفَاك؟
وإذا رأيت النهر بالعذب الزُّلال *** جرى فسَلْه من الذي أجراك؟
وإذا رأيت البحر بالملح الأُجاج *** طغى فسَلْه من الذي أطغاك؟
وإذا رأيت الليل يغشى داجيًا *** فاسأله من يا ليل حاك دُجاك؟
وإذا رأيت الصُّبح يسفر ضاحيًا *** فاسأله من يا صبح صاغ ضُحَاك؟
ستجيب ما في الكون من آياته *** عجب عجاب لو ترى عيناك
ربي لك الحمد العظيم لذاتك *** حمدًا وليس لواحد إلاَّكيا
مدرك الأبصار والأبصار *** لا تدري له ولِكُنْهِهِ إدراكًا
إن لم تكن عيني تراك فإنني *** في كل شيء أستبين عُلاك
يا منبت الأزهار عاطرة الشَّذَى يا مجري الأنهار عاذبة الندى ما خاب يومًا من دعا
ورَجَاك يا أيها الإنسان مهلا ما الذي بالله جل جلاله أغراك؟أحبتي في الله، الله نصب
لخلقه دلالات، وأوضح لهم آيات بيِّنات في الأنفس والأرضين والسماوات (لِيَهْلِكَ مَنْ
هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) الأنفال.
وقال تعالى (وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ) (الذاريات)
وتحسب أنك جِرْم صغير *** وفيك انطوى عالم أكبر
فيا أيها العبد العاصي، ألك قَدْر إن فارقت صراط الله ودربه؟
(أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا
وَنَسِيَ خَلْقَه) يس .78،79)
تحتَجُّ على مولاك وقد هداك، وتحيد عن الطريق وقد دلَّك وأرشدك؟ بئس العبد عبد
سها ولهى ونسيَ المبدأ والمنتهى. بئس العبد عبد طغى وعَتَا ونسي الجبار الأعلى.
السماء تستأذن ربها أن تَحْصدَه، والأرض أن تخسف به، والبحر أن يغرقه، من أنت؟
وما تكون الأرض وما عليها؟ ثق أنك سقطت من عين الله، ولو كان لك قدرٌ
عند الله لعصمك من المعاصي.
يا أيها الماء المهين من الذي سوَّاك *** ومن الذي في ظلمة الأحشاء قد والاك
ومن الذي غذَّاك من نَعْمَائِه *** ومن الكروب جميعها نجَّاك؟
ومن الذي شقَّ العيون فأبصرت *** ومن الذي بالعقل قد حلاَّك؟
ومن الذي تعصي ويغفر دائمًا *** ومن الذي تنسى ولا ينساك
(أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْل وَالنَّهَار:ـ
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) إن تعاقب
الليل والنهار نعمة عظيمة؛ إذ هي تنظم وجود الأحياء على الأرض، من نمو النبات،
وتفتُّحُ الأزهار، ونضج الثِّمار، وهجرة الطيور والأسماك والحشرات، ومن شاء
فليتصور ليلا بلا نهار، أو نهارًا بلا ليل، كيف تكون الحياة؟ (قُلْ أَرأيتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ
عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ *
قُلْ أَرأيتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ
بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ) أما إنها لو سكنت حركة الشمس لغرق نصف الأرض
في ليل سرمدي، وغرق نصفها الآخر في نهار سرمدي، وتعطلت مع ذلك مصالح
ومنافع، ومن عاش في المناطق القطبية بعض الوقت عرف نعمة تعاقب الليل والنهار؛
إذ يبقى النهار لمدة ستة أشهر، والليل كذلك. (وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ
لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .
انتهي بفضل الله ورحمته