24 أبريل 2017

الحساب الختامي في شعبان

الحساب الختامي في شعبان

الحمدُ لله رب العالمين.. والصلاة والسلام علي سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم ..
فاللهم صل وسلم علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا....

أما بعد :

فإن الأمة الإسلامية تعيش أيامًا طيبةً مباركةً، نفحات ورحمات ربانية، أخبر عنها المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في حديثه:

"ألا إن لله في أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها، فإنَّ مَن تعرَّض لنفحة من نفحات الله لم يعذبه الله أبدًا".رواه الطبراني في الكبير عن محمد بن مسلمة. 


 يأتي شهر شعبان من كلِّ عام ليفيض علينا من الخيرات والبركات والرحمات والذكريات الطيبة المباركة ما نحن في أَمَسِّ الحاجة إليه. فشهر شعبان كله متميز من أشهر العام، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم يحفل به بعد شهر رمضان كما لم يكن يحفل بأي شهر من شهور العام.

 هذا الشهر هو الشهر الذي تُرفع فيه الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى كما قال عليه الصلاة والسلام، وهو الشهر الذي يرحم الله- عز وجل- فيه المسترحمين، ويغفر لعباده المستغفرين، هذا الشهر شهر يعتق الله سبحانه وتعالى فيه أعدادًا لا تُحصى.. لا يحصيها إلا الله- عز وجل- من النار.

 ولقد روى أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أنه سأله قائلاً‏:‏ يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من شهور العام كما تصوم من شهر شعبان،

فقال عليه الصلاة والسلام "‏ذلك شهر يغفل عنه كثير من الناس بين رجب ورمضان.

 قال ابن رجب رحمه الله : صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم ، وأفضل التطوع ما كان قريب من رمضان قبله وبعده ، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها وهي تكملة لنقص الفرائض ، وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده ، فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة فكذلك يكون صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بَعُد عنه .

 وقوله " شعبان شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان " يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام وشهر الصيام اشتغل الناس بهما عنه ، فصار مغفولا عنه . شهر ترفع فيه الأعمال:ــ وهو شهر ترتفع فيه الأعمال إلى الله عز وجل، فأحب أن يرتفع عملي إلى الله وأنا صائم"‏، أخرجه النسائي.

 وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ "‏ما من شهر أكثر صيامًا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم منه في شهر شعبان"‏ رواه البخاري ومسلم وابوداود والترمذي والنسائي . 

فإن شهر شعبان هو الموسم الختامي لصحيفتك وحصاد أعمالك عن هذا العام ، فبم سيُختم عامك؟ ثم ما الحال الذي تحب أن يراك الله عليه وقت رفع الأعمال؟ وبماذا تحب أن يرفع عملك إلى الله ؟ هي لحظة حاسمة في تاريخ المرء، يتحدد على أساسها رفع أعمال العام كله إلى المولى تبارك وتعالى القائل " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه "

فهل تحب أن يرفع عملك وأنت في طاعة للمولى وثبات على دينه وفي إخلاص وعمل وجهاد وتضحية ، أم تقبل أن يرفع عملك وأنت في سكون وراحة وقعود وضعف همة وقلة بذل وتشكيك في دعوة وطعن في قيادة .

 راجع نفسك أخي الحبيب وبادر بالأعمال الصالحة قبل رفعها إلى مولاها في شهر رفع الأعمال. وروى البيهقي بإسناد جيد .

كما قال عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فصلى وسجد وأطال السجود حتى ظننت أنه قد قُبض، فلما رأيت ذلك قمت وحركت أنمله فتحرك، فرجعت فسمعته يقول في سجوده‏:‏

 "‏اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك" فلما سلَّم قال لي "يا عائشة:‏ أظننت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خاس بك‏؟
"‏ قلت لا والله يا رسول الله، ولكنني ظننت أنك قد قُبِضت أي لطول سجوده وعدم تحركه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ "أتعلمين أي ليلة هذه‏؟‏" قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم،

"قال‏:‏ إنها ليلة النصف من شعبان، يَطَّلِع الله عزَّ وجلَّ فيها على عباده فيقول‏:‏ ألا هل من مستغفر فأغفر له، ألا هل من سائل فأعطيه، ألا هل من داع فأستجيب له، ويؤخر أهل الأحقاد كما هم .

 الحياء من الله :ـ 

 فالناظر إلى حال الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم في شعبان، يظهر له أكمل الهدي في العمل القلبي والبدني في شهر شعبان ، ويتجسد الحياء من الله ونظره إليه بقوله " وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم "

ففي الحديث قمة الحياء من الله عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بألا يراه الله إلا صائماً، وهذا هو أهم ما يجب أن يشغلك أخي المسلم ، أن تستحي من نظر الله إليك ، تستحي من نظره لطاعات قدمتها امتلأت بالتقصير.

 ولذلك قال بعض السلف: "إما أن تصلي صلاة تليق بالله جل جلاله، أو أن تتخذ إلهًا تليق به صلاتك"، وتستحي من أوقات قضيتها في غير ذكر لله ، وتستحي من أعمال لم تخدم بها دينه ودعوته ، وتستحي من همم وطاقات وإمكانيات وقدرات لم تستنفذها في نصرة دينه وإعزاز شريعته ، وتستحي من قلم وفكر لم تسخره لنشر رسالة الإسلام والرد عنه ، وتستحي من أموال ونعم بخلت بها عن دعوة الله ، وتستحي من كل ما كتبته الملائكة في صحيفتك من تقاعس وتقصير، وتستحي من كل ما يراه الله في صحيفتك من سوءات وعورات ، كل ذلك وغيره يستوجب منك أخي الحبيب الحياء من الله والخشية منه .

 مغفرة الذنوب :ـ 

 فإن شهر شعبان هو شهر المنحة الربانية التي يهبها الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن لله في أيام دهركم أيامًا وأشهرًا يتفضَّل بها الله عباده بالطاعات والقربات، ويتكرَّم بها على عباده بما يعدُّه لهم من أثر تلك العبادات، وهو هديةٌ من رب العالمين إلى عباده الصالحين؛ ففيه ليلة عظيمة هي ليلة النصف من شعبان، عظَّم النبي صلى الله عليه وسلم شأنها في قوله:

"يطّلع الله تبارك وتعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلاَّ لمشرك أو مشاحن". 


 هي فرصة تاريخية لكل مخطئ ومقصر في حق الله ودينه ودعوته وجماعته ، وهي فرصة لمحو الأحقاد من القلوب تجاه إخواننا ، فلا مكان هنا لمشاحن وحاقد وحسود ، وليكن شعارنا جميعا قوله تعالى

" ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين ءامنوا ربنا إنك رؤوف رحيم" 

 قال بعض السلف:

أفضل الأعمال سلامة الصدور وسخاوة النفوس والنصيحة للأمة وبهذه الخصال بلغ من بلغ، وسيد القوم من يصفح ويعفو، وهي فرصة لكل من وقع في معصية أو ذنب مهما كان حجمه ، هي فرصة لكل من سولت له نفسه التجرؤ على الله بارتكاب معاصيه ، هل فرصة لكل مسلم قد وقع في خطأ
" كل ابن آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابين" 
هي فرصة إذاً لإدراك ما فات وبدء صفحة جديدة مع الله تكون ممحوة من الذنوب و ناصعة البياض بالطاعة .

 أيها المؤمنون ...
نحن كلنا بحاجة إلى أن ننتهز فرص تجليات الله تعالى على عباد الله بالرحمة، نحن كما تعلمون مثقلون بالأوزار، ولسنا نملك والحالة هذه- سوى أن نتصيد هذه الأوقات التي أنبأ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتي يتجلى الله عز وجل فيها على عباده بالرحمة، ليس لنا من سبيل إلا أن ننتهز هذه الفرص لنتعرض لرحمة الله، نتعرض لمغفرته، نتعرض لإكرامه، ونبسط أكف الضراعة والافتقار إليه، داعين متضرعين أن يخفف عنَّا عزَّ وجلَّ من ذنوبنا، وأن يكرمنا بالعفو والعافية التامة، وأن يرحم أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مما قد أصابها‏. فرصة بين يدي شهر رمضان المبارك تتمثل في هذا الشهر الذي يغفل عنه كثير من الناس كما قال رسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أتأمل وأنظر في رحمة الله عزَّ وجلَّ، المفروض أن يكون العبد المسرف على نفسه المثقل بالأوزار هو السبّاق إلى باب الله عزَّ وجلَّ يطرقه ويستجدي منه المغفرة والصفح، ولكن الأمر يجري على العكس من ذلك، الله عز وجل هو الذي يلاحق عباده، هو الذي يلاحق التائهين المعرضين الغافلين السادرين في غيِّهم، يدعوهم إلى أن يعودوا فيصطلحوا معه، يدعوهم إلى أن يعودوا فيجددوا البيعة له، يدعوهم أن يعودوا إلى رحابه ليرحمهم وليغفر لهم وليحط عنهم من أوزارهم وآصارهم.

 تلك صورة من صور رحمة الله عزَّ وجلَّ بعباده، إنها لظاهرة تجعل الإنسان يذوب خجلاً من الله، بل محبة لله عز وجل أن يلاحق الله عز وجل عباده الشاردين التائهين العاصين له، العاكفين على أوزارهم في مثل هذا الشهر المبارك، ليقول لهم‏:‏ أما آن لكم أن تعودوا، أما آن لكم أن ترفعوا رءوسكم عن الغي قبل أن تنتهي الفرصة ويحين المعاد. ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ‏﴾ (الحديد: من الآية 16).

تلك صورة من أجلِّ صور رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، ولكني إذ أقول هذا أيها الإخوة لا أعني ما قد يفهمه بعض الناس من أن المسلم يغنيه أن يلتفت إلى الله عز وجل في مثل هذه الفرص فيتزود لنفسه بالكثير أو القليل من رحمات الله عز وجل ومغفرته، حتى إذا زالت هذه الفرصة وانطوت عاد مرة أخرى إلى غيِّه، عاد مرة أخرى إلى شروده وانحرافه.

15 أبريل 2017

الوسطية في الإسلام


تحميل word


تحميل pdf
 الحمد لله رب العالمين.. أرسل رسوله صلي الله عليه وسلم رحمة للعالمين فقال تعالي } وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) { الأنبياء .

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ..... أقام الدين علي الوسطية واليسر وجعل لنا الشهادة علي العالمين فقال تعالي: { وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ (143))} [البقرة] . 

وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم جاء بالحنيفية السمحة وأمرنا أن نتعامل مع الدين بيسر ووسطية ، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن الدين يسرٌ، ولن يُشاد الدِّين أحدٌ إلا غلبه؛ فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغَدْوة والرَّوَحَة، وشيء من الدلجة). 

 فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين .
 أما بعــــــد .. فيا أيها المؤمنون ...

 إن من نعم الله علينا وعلى الإنسانية إرسال نبينا محمدٍ صلي الله عليه وسلم بالحنيفية السمحاء رحمة للعالمين، وهذه الرحمة ذات صور من الود والتسامح والعفو والتناصح تضافرت نصوصها من القرآن والسنة، وتجسدت في تعامل المسلمين الأوائل مع المسلمين وغيرهم فقد خص الله تعالي هذا الدين بخصائص وميزات لم تتوفر في أي دين آخر،لأنه من عند الله تعالي ليس من عند بشر ودين شامل يلبي كل احتياجات الخلق ودين تميز بميزة لم تكن في غيره وتعد من أبرز الخصائص والميزات وهي الوسطية ، دين يوازن بين المادة والروح ، بين الدنيا والآخرة ، بين الدين والدنيا ،ليس فيه تغليب لجانب علي جانب ، بعيدا عن الشطط والغلو والتفريط ،لا يعرف العنف ولا التشدد وإنما تعامل مع كل الأشياء بميزان لأن الله تعالي هو الذي خلق الميزان ، فقال تعالي } وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) { الرحمن .
ومع هذا فإن بعض الناس الذين لا يعرفون حقيقة هذا الدين يظن أن الإسلام لا يعرف العفو والصفح والسماحة، وإنما جاء بالعنف والتطرف والسماجة، لأنهم لم يتحروا الحقائق من مصادرها الأصلية، وإنما اكتفوا بسماع الشائعات والافتراءات من أرباب الإلحاد والإفساد الذين عبدوا الشهوات ونهجوا مسلك الشبهات بما لديهم من أنواع وسائل الإعلام المتطورة، من أجل ذلك كان لا بد من بيان الحق ودمغ الباطل بالأدلة الساطعة والحقائق الناطقة من القرآن والسنة القولية والفعلية والتاريخ الأصيل.لذلك كان موضوعنا عن الوسطية في الإسلام. ويتناول هذه العناصر الرئيسية التالية :ـ

 1ـ مفهوم الوسطية .
 2ـ الدين الإسلامي قائم علي الوسطية والسماحة 
 3ـ - مظاهر الوسطية في الإسلام.
4ـ وسطية الإسلام في التعامل مع غير المسلمين . 
 5ـ شهادة التاريخ .
 6ـ الفضل ما شهد به الأعداء .
 العنصر الأول :ـ مفهوم الوسطية:ــ 

 هو العدل والخيار، وهو أحسن الأمور وأفضلها وأنفعها للناس وأجملها، كما تعرّف على أنّها الاعتدال في كلّ أمور الحياة ومنهاجها وتصوراتها ومواقفها، فالوسطية ليست مجرد موقف بين الانحلال والتشديد، بل تعتبر موقفاً أخلاقياً وسلوكياً ومنهجاً فكرياً. والوسطية هي الخيرية يقال هو من أوسط قومه أي من خيارهم " ، ومنه قول الله عز وجل : { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ(28) } [القلم] .
قال الإمام ابن كثير : أي قال أعدلهم وخيرهم كما قال ابن عباس . ومن ذلك قول الصديق رضي الله عنه يوم السقيفة عن قريش : ( هم أوسط العرب نسباً وداراً ).[ أخرجه البخاري .
وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يجيء نوح وأمته ،فيقول الله تعالى: هل بلغت ؟ فيقول نعم أي رب .فيقول لأمته : هل بلغكم ؟ فيقولون : لا ما جاءنا من نبي. فيقول لنوح :من يشهد لك ؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته. فنشهد أنه قد بلَّغ ،
وهو قوله جل ذكره : {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس}، والوسط العدل ». [ أخرجه البخاري والترمذي وابن ماجة ]. 

والوسطية تعني الاستقامة:
 أي استقامة المنهج والبعد عن الميل والانحراف فالمنهج المستقيم وبتعبير القرآن الكريم ( الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ )، فإذا فرضنا خطوطاً كثيرة واصلة بين نقطتين متقابلتين، فالخط المستقيم إنما هو الخط الواقع في وسط تلك الخطوط المنحنية، ومن ضرورة كونه وسطاً بين الطرق الأخرى أن تكون الأمة المهدية إليه وسطاً بين الأمم السالكة إلى تلك الطرق الزائغة. والذي لاشك منه أن كلاً من اليهود والنصارى يمثلون الإفراط والتفريط في كثير من القضايا.
 فاليهود قتلوا الأنبياء والنصارى ألهوهم، اليهود أسرفوا في التحريم والنصارى أسرفوا في الإباحة، اليهود غلوا في الجانب المادي والنصارى قصروا فيه، النصارى غلوا في الجانب الروحي واليهود قصروا فيه، أما الإسلام فإنه يعلم المسلم أن يحذر من تطرف كلا الفريقين وأن يلتزم المنهج الوسط أو المستقيم.

 والوسطية تمثل الأمان: 
والوسطية تمثل منطقة الأمان، والبعد عن الخطر، فالأطراف عادة تتعرض للخطر والفساد بخلاف الوسط فهو محمي ومحروس بما حوله.

والوسطية دليل القوة:


 فالوسط هو مركز القوة، ألا ترى الشباب الذي يمثل مرحلة القوة وسطاً بين ضعفين هما الطفولة وضعف الشيخوخة.

والوسطية مركز الوحدة:

 والوسطية تمثل مركز الوحدة ونقطة التلاقي فعلى حين تتعدد الأطراف تعدداً قد لا يتناهى يبقى الوسط واحداً يمكن لكل الأطراف أن تلتقي عنده وهذا واضح في الجانب المادي والجانب الفكري والمعنوي .
 فمركز الدائرة في وسطها يمكن لكل الخطوط الآتية من المحيط أن تلتقي عنده والفكرة الوسطى يمكن أن تلتقي بها الأفكار المتطرفة في نقطة ما، هي نقطة التوازن والاعتدال.

 العنصر الثاني :ـ الدين الإسلامي قائم علي الوسطية والسماحة :ــ 

 لقد دعا الإسلام المسلمين إلى التحلي بخلق السَّمَاحَة، فإنَّ السَّمَاحَة من خلق الإسلام نفسه، فمن السَّمَاحَة عفو الله ومغفرته للمذنبين من عباده، وحلمه تبارك وتعالى على عباده، وتيسير الشريعة عليهم، وتخفيف التكاليف عنهم، ونهيهم عن الغلو في الدين، ونهيهم عن التشديد في الدين على عباد الله...
 - قال تعالى: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185]. 
 - وقال: مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6]. 
 - وقال سبحانه: يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء: 28]. 
 - ونهى النَّبي عن التنطع والتَّشدد في الدين، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون). قالها ثلاثًا رواه مسلم . 
- ودعا الرسول صلى الله عليه وسلم على من يشق على المسلمين فقال: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشقَّ عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم، فارفق به) رواه مسلم .
 ولقد كانت رسالة النبي صلي الله عليه وسلم رحمة للبشرية رفع الله بها عن الناس الأغلال والأصار ، فقال تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:157]. 
 فالدين الإسلامي يُسْرٌ في عقائده وأحكامه وفي أوامره ونواهيه ، فعقائده أصح العقائد وأصدقها وأنفعها ، وأخلاقه أحمد الأخلاق وأجملها وأطيبها ، وأعماله وأحكامه أحسن الأحكام وأعدلها وأقومها .
 ومن تأمَّل حُسن هذا الدين ونقاءه وصفاءه وبهاءه ويسره وسهولته ازداد تمسكاً به وتعظيماً له وقياماً بعقائده وأحكامه ؛
 فقد ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الدين يسر، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة، والروحة، وشيء من الدلجة) رواه البخاري واللفظ له، ومسلم . 
 معنى قوله (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ): أي ميسَّرٌ مسهَّلٌ في عقائده وأخلاقه وأعماله ، وفي أفعاله وتروكه ؛ فإن عقائده التي ترجع إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره هي العقائد الصحيحة التي تطمئن لها القلوب وتوصل معتقِدَها والمتمسِّك بها إلى أجلِّ غاية وأفضل مطلوب .
 وأخلاقه وأعماله أكمل الأخلاق وأصلح الأعمال ؛ بها صلاح الدين والدنيا والآخرة ، وبفواتها يفوت الصلاح كلُّه ، وهي كلها ميسرةٌ مسهَّلة ، كل مكلَّف يرى نفسه قادراً عليها لا تشق عليه ولا تكلفه ، عقائده صحيحةٌ بسيطة ، تقبلها العقول السليمة والفطر المستقيمة ، وفرائضه أسهل شيء يكون في الفرائض وأيسره ، فانظر إلي هذه الفرائض التي فرضها الله تعالي علي عباده تجد فيها اليسر والسماحة .

 فأما الصلوات الخمس :ـ 
فإنها تتكرر كلَّ يوم خمس مرات في أوقات مناسبة لها ، وتمَّم اللطيف الخبير سهولتها بإيجابها جماعة والاجتماع لها ، فإن الاجتماع في هذه العبادة من المنشطات والمسهلات لها ، ورتب عليها من خير الدين وصلاح الإيمان وثواب الله العاجل والآجل ما يوجب للمؤمن أن يستحليها ويحمد الله على فرضه لها على العباد ؛ إذ لا غنى لهم عنها .
وأما الزكاة :ـ
 فإنها لا تجب على فقير ليس عنده نصاب زكوي ، وإنما تجب على الأغنياء تتميماً لدينهم وإسلامهم، وتنميةً لأموالهم وأخلاقهم ، ودفعاً للآفات عنهم وعن أموالهم ، وتطهيراً لهم من السيئات ، مواساةً لمحاويجهم وفقرائهم ، وقياماً لمصالحهم الكلية ، وهي مع ذلك جزء يسير جداً بالنسبة إلى ما أعطاهم الله من المال والرزق .

 وأما الصيام :ـ 
 فإن المفروض شهر واحد من كل عام ، يجتمع فيه المسلمون كلهم فيتركون فيه شهواتهم الأصلية من طعام وشراب ونكاح في النهار ، ويعوِّضهم الله عن ذلك من فضله وإحسانه تتميم دينهم وإيمانهم ، وزيادة كمالهم وأجره العظيم وبرِّه العميم ، وغير ذلك مما رتبه على الصيام من الخير الكثير ويكون سبباً لحصول التقوى التي ترجع إلى فعل الخيرات كلها وترك المنكرات .

 وأما الحج : ـ 
فإن الله لم يفرضه إلا على المستطيع وفي العمر مرة واحدة ، وفيه من المنافع الكثيرة الدينية والدنيوية ما لا يمكن تعداده ، كما قال الله تعالى {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ (28)} [الحج] أي دينية ودنيوية .
 وهكذا بقية شرائع الإسلام كلها سهلة ميسَّرة ، وهي راجعةٌ إلى أداء حقِّ الله وحقِّ عباده ، وليس فيها أي مشقة أو حرج على المكلَّفين ، يقول الله تعالى : {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ(6)} [المائدة] . 

 مشروعية الرخص :ـ 
 الرخص نمط من التشريع يدل قطعاً على رفع الحرج والمشقة، ولو كان الشارع قاصداً للمشقة في التكليف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف، والرخص كثيرة جداً، منها: قصر الصلاة في السفر، والمسح على الجوربين أو الخفين، والتيمم في حال فقدان الماء وعند تعذر استعماله لمرض وغيره، والفطر في الصيام للمريض أو للمسافر أو غير ذلك، وصلاة الإنسان وهو مريض جالساً أو حسب ما يستطيع، إلى غير ذلك. ولقد حث الشرع في الأخذ بهذه الرخص، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) إذاً الشرع لا يقصد بهذه التكاليف الشرعية أن يعنفنا وأن يوقعنا في الحرج وفي المشقة.
 وقد أجمع العلماء على عدم وقوع الحرج في التكليف، وهذا يدل على عدم قصد الشارع له، وهذا متقرر باستقراء آحاد الأحكام.

 العنصر الثالث : - من مظاهر الوسطية في الإسلام:

 وإذا كان للوسطية كل هذه المزايا فلا عجب أن تتجلى واضحة في كل جوانب الإسلام، فالإسلام وسط في الاعتقاد، ووسط في التعبد، ووسط في الأخلاق، ووسط في التشريع: لا عجب أن نجد من أبرز مظاهر الوسطية في رسالة الإسلام التوازن بين الروح والمادة أو بين الدين والدنيا:ــ
- لقد وجدت في التاريخ أمم وأفراد كل همهم إشباع الجانب المادي في الإنسان دون الالتفات إلى الجوانب الأخرى: {وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (29) { الأنعام. 
 وهذه النزعة المادية المغالية جديرة بأن تولد التكالب على متاع الدنيا والغرور والاستكبار، ونرى ذلك واضحاً فيما قصه الله علينا في القرآن. فها هو صاحب الجنتين يفخر على صاحبه قائلاً: { أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً(34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدا(35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً(36)} الكهف.
ونتيجة لهذا الغرور والتكبر أرسل الله على جنته حسباناً من السماء فأصبحت صحراء قاحلة وأصبح ماؤها غورا. وكذلك الأمم التي أترفت في الحياة الدنيا قتلها الترف ودمرها التحلل وحقت عليها كلمة العذاب وعن هذا نجد أمثلة كثيرة في القرآن الكريم كما قال الله تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِين(11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ(12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ(13)} الأنبياء. 
-وفي الطرف المقابل نجد أفراد وأمم نظروا إلى الدنيا نظرة احتقار وعداوة فحرموا على أنفسهم طيبات الحياة وزينتها وبدا ذلك بوضوح وجلا في نظام الرهبانية الذين ابتدعه النصارى.
 - أما الإسلام قام بين هاتين النزعتين يدعوا إلى التوازن والاعتدال فصحح مفهوم الناس عن حقيقة الإنسان وعن حقيقة الحياة. فالإنسان مخلوق مزدوج الطبيعة يقوم كيانه على المادة والروح وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الطبيعة المزدوجة في خلق الإنسان فقال تعالى: { وإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ(71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ(72) } ص. والحياة ليست سجنا عوقب الإنسان به إنما هي نعمة يجب أن تشكر ومزرعة لحياة أخرى هي خير وأبقى.
والقرآن الكريم يدعوا إلى العمل للحياة والاستمتاع بطيباتها مع الحث على الاستعداد للآخرة وذك بالإيمان والعبادة وحسن الصلة بالله حيث يقول الله تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(10) } الجمعة. والرسول صلى الله عليه وسلم كان يأكل من طيبات هذه الحياة ولا يحرمها على نفسه ولكنه لم يجعلها شغل نفسه فكان يدعوا ( اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ) رواه البخاري.
 لما جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ‏يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ ‏فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ ‏تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ ‏‏ ‏قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ؟!! قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا؛ فَجَاءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏ ‏ ‏إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: ‏"أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ: كَذَا وَكَذَا، أَمَا والله إِنِّي ‏لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (رواه البخاري، ومسلم ،والنسائي ، وأحمد..). 
 ورأى النبي صلى الله عليه وسلم حبلاً ممدودًا بين ساريتين فسأل عنه، فأخبر أنه لزينب تتمسك به إذا كسلت عن الصلاة، فأمر صلى الله عليه وسلم بإزالته وقال: (لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ) (متفق عليه) 
 وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (يَا عَبْدَ الله، أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟) قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله. قَالَ: (فَلاَ تَفْعَلْ؛ صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) ( متفق عليه ). 
وهكذا تعلم الصحابة أن يوازنوا بين مطالب دنياهم وآخرتهم وأن يعملوا للدنيا كأحسن ما يعمل أهل الدنيا ويعملوا للآخرة كأحسن ما يعمل أهل الآخرة، يقول القائد الفاتح عمرو بن العاص رضي الله عنه (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً ), 
ولم يشعروا بتعارض بين عملهم لدنياهم بل شعروا بالوحدة والانسجام حيث كانت شعائرهم وواجباتهم الدينية تعطيهم زاداً وشخصية قوية يواصلون بها الكفاح لدنياهم. وفي الإسلامي تتوازن حرية الفرد ومصلحة المجتمع وتتكافأ فيها الحقوق والواجبات . وقد جاء الإسلام نظاماً وسطاً عدلاً لا يجور على الفرد لحساب المجتمع ولا يظلم المجتمع من أجل الفرد لذلك من هنا نجد:

1ـ قرر الإسلام حرمة الدم، فحفظ للفرد (( حق الحياة )) وأعلن القرآن أن {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} (32) سورة المائدة,
وأوجبت الشرعة القصاص في القتل العمد.

 2ـ وقرر حرمة العرض، فصان للفرد (( حق الكرامة )) فلا يجوز أن يهان في حضرته أو يؤذى في غيبته {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات.

 3ـ وقرر حرمة المال، فصان للفرد ( حق التملك ) فلا يحل لأحد أن ينهب ماله ويأخذه منه بغير حق، قال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: ( أن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا ) رواه مسلم.

 4ـ وقرر حرمة البيت، فصان بذلك للفرد ( حق الاستقلال الشخصي ) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(27)} النــور.

5ـ وقرر للفرد ( حرية الاعتقاد ) فلا يجوز أن يكره على ترك دينه واعتناق دين آخر. }لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم(256)ٌ} البقرة.

6ـ وقرر للفرد ( حرية النقد ) فمن حق كل فرد أن يعارض ما يراه من عوج وهو ما سماه الإسلام (( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )) {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(104) } آل عمران.

7ـ وقرر للفرد ( حرية الرأي والتفكير ) فقد أمر الإسلام الناس أن يتفكروا وأجاز لهم أن يخطئوا فهم بشر ولا لوم عليهم في ذلك، والإسلام لا يحرم المجتهدون الأجر و لو أخطئوا في إصابة الحقيقة ففي الحديث ( المجتهد إذا أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران ) متفق عليه.

 8- وقرر الإسلام (( المسؤولية الفردية )) وأكدها تأكيداً بالغاً في كتابه فقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(38)} المدثر. 
وهذه الحقوق والحريات التي منحها الإسلام للفرد قيدها وحددها لتكون في حدود ومصلحة المجتمع وان لا يكون فيها مضره للغير، فإذا تعارض حق الفرد مع حقوق الجماعة فإن حق الجماعة أولى بالتقديم.

 9ـ قرر الإسلام اليسر واللين في الدعوة :ـ 
إن أساس الدعوة هو القول الليّن حتى لو كان المدعو من أعتَى الخلق، وهذا يتبين من قول الله تعالى لموسى وهارون (عليها السلام) لَمَّا أرسلهما إلى فرعون: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أوْ يَخْشَى) (طه44). 
 يقول ابن كثير بعد عرض أقوال المفسرين: والحاصل من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق سهل رفيق، ليكون أوقع في النفوس وأبلَغ وأنجَع. يقول تعالى مُرشداً لنبيه (صلى الله عليه وسلم): (إنَّ رَبَّكَ هُوَ أعْلَمُ بَمَن ضَلَّ عَن سَبيلِهِ وَهُوَ أعْلَمُ بِالمُهْتَدين) (النحل 125).
 ويتجلّى هذا المنهج السليم في الدعوة إلى الله بالحكمة أولاً والموعظة الحسنة ثانياً. والجدال بالتي هي أحسن ثالثاً. وما وصف الموعظة والجدل بالإحسان إلا من باب تأكيد معنى السماحة في الدعوة وعدم اتخاذ العنف وسيلة لها.
 دخلَ أعرابِيٌّ المسجِدَ ، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جالِسٌ ، فصلَّى ، فلما فرغَ قال : اللهمَّ ارحمني ومحمدًا ، ولَا ترحمْ معنا أحدًا ، فالتفَتَ إليهِ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال : لقدْ تَحَجَّرْتَ واسعًا ، فلم يلبثْ أنْ بالَ فِي المسجدِ ، فأسرعَ إليه الناسُ ، فقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : أهْريقوا عليْهِ سَجْلًا مِنْ ماءٍ ، أوْ دلْوًا مِنْ ماءٍ ، ثُمَّ قال : إِنَّما بُعِثْتُم مُيَسِّرينَ ولَمْ تُبْعَثوا مُعَسِّريْنَ ) رواه الترمذي وقال حسن صحيح. 
 وصدق سيدي رسول الله صلي الله عليه وسلم حين قال :عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يبعثني معنفاً ولا متعنفاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً) صحيح الجامع . 

 العنصر الرابع : وسطية الإسلام في التعامل مع غير المسلمين:ـ


 1ـ حرية الإعتقاد : 
 لقد كفل الإسلام الحرية لكل فرد؛ فلا إكراه في الدخول في الإسلام إلا بعد القناعة التامة بهدايته؛ حيث قال تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة: 256]، 
فدين الإسلام بيّن واضح جلي، دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحدًا على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورًا.

 2 ـ عدم التعرض لهم بأي أذي :ـ 
 لقد حرّم الإسلام التعرض بالأذى بالقول والفعل لكل معاهد أو مستأمن دخل ديار الإسلام؛ ووعد وأغلظ في العقوبة لمن تعرض لهم بالأذى؛ فقد روى البخاري في صحيحه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ) مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا (.

 3 ـ الإحسان إليهم :ـ 
 أمر بالإحسان إلى غير المسلمين الذين لم يعرف لهم أذية للمسلمين ولا قتالهم؛ كما قال تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(8) ﴾ [الممتحنة]،
بل فوق ذلك أمر بصلتهم والإنفاق عليهم، فقد روى البخاري في صحيحه عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَتْ: ) قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْتُ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ (.
 وأوجب على المسلمين سلوك العدل في التعامل مع غيرهم؛ ولم يجعل عدم دخولهم في الإسلام سببًا في ظلمهم أو خيانتهم، كما قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ (المائدة: 8) .
 وأكثر من ذلك أن الإسلام ضمن لغير المسلمين في ظل دولته، كفالة المعيشة الملائمة لهم ولمن يعولونه، لأنهم رعية للدولة المسلمة وهي مسئولة عن كل رعاياها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته" . (متفق عليه) ،
 وهذا ما مضت به سُنَّة الراشدين ومَن بعدهم. ففي عقد الذمة الذي كتبه خالد بن الوليد لأهل الحيرة بالعراق، وكانوا من النصارى: "وجعلت لهم، أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيًّا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه، طرحت جزيته وعِيل من بيت مال المسلمين هو وعياله" . .
 وكان هذا في عهد أبي بكر الصِّدِّيق، وبحضرة عدد كبير من الصحابة، وقد كتب خالد به إلى الصِّدِّيق ولم ينكر عليه أحد، ومثل هذا يُعَد إجماعًا. ورأى عمر بن الخطاب شيخًا يهوديًا يسأل الناس، فسأله عن ذلك، فعرف أن الشيخوخة والحاجة ألجأتاه إلى ذلك، فأخذه وذهب به إلى خازن بيت مال المسلمين، وأمره أن يفرض له ولأمثاله من بيت المال ما يكفيهم ويصلح شأنهم، وقال في ذلك: ما أنصفناه إذ أخذنا منه الجزية شابًا، ثم نخذله عند الهرم!

 4ـ الحفاظ علي دور العبادة :ـ
 لقد صان الإسلام لغير المسلمين معابدهم ورعى حرمة شعائرهم، بل جعل القرآن من أسباب الإذن في القتال حماية حرية العبادة، وذلك في قوله تعالى: (أُذِن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا، وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا). (الحج: 39 – 40) 
وقد رأينا كيف اشتمل عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل نجران، أن لهم جوار الله وذمة رسوله على أموالهم وملَّتهم وبِيَعهم. وفي عهد عمر بن الخطاب إلى أهل إيلياء (القدس) نص على حُريتهم الدينية، وحرمة معابدهم وشعائرهم: "هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملَّتها، لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود . . " كما رواه الطبري .

 وفي عهد خالد بن الوليد لأهل عانات: "ولهم أن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار، إلا في أوقات الصلاة، وأن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم" .
 وكل ما يطلبه الإسلام من غير المسلمين أن يراعوا مشاعر المسلمين، وحُرمة دينهم، فلا يظهروا شعائرهم وصلبانهم في الأمصار الإسلامية، ولا يحدثوا كنيسة في مدينة إسلامية لم يكن لهم فيها كنيسة من قبل، وذلك لما في الإظهار والإحداث من تحدي الشعور الإسلامي مما قد يؤدي إلى فتنة واضطراب. كذلك حرم التعرض لدور العبادة التي يتعبد فيها غير المسلمين عند نشوب حرب بين المسلمين وغيرهم، بل وحرم قتل من لم يشارك في تلك الحرب من النساء والأطفال؛

فقد روى مسلم في صحيحه عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا (. 

 وكان من وصايا أبي بكر الصديق - رضي الله عنه- لأمرائه على الحرب قوله: (وستمرون على قوم في صوامع لهم احتبسوا أنفسهم فيها، فدعهم حتى يميتهم الله فيها على ضلالتهم، يا يزيد: لا تقتل صبيا ولا امرأة ولا صغيرا، ولا تخربن عامرا، ولا تعقرن شجرا مثمرا، ولا دابة عجماء، ولا بقرة ولا شاة إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلا ولا تغرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن)

 العنصر الخامس شهادة التاريخ :ـ 

 والتاريخ خير شاهد علي سماحة ويسر الإسلام مع غيره ، كيف تعامل غير المسلمين مع المسلمين ....


اقرؤوا التاريخ إذ فيه العبر.... ضل قوم ليس يدرون الخبر 

 هل سمعتم ماحدث في الأندولس هذه الحضارة العظيمة عندما سقطت الأندلس بعد قرون من البناء والتقدم والازدهار وإشاعة العدل والتسامح مع جميع السكان من ذوي الأديان المختلفة كانت إبادة المسلمين في الأندلس وصمة عار أخرى على النصارى الصليبيين رغم السماحة التي عومل فيها النصارى من أهل أسبانيا طوال قرون خلت، إذ سمح المسلمون لهم أن يحتفظوا بشرائعهم وقضاتهم، وعُيّن لهم حكام للأقاليم من أنفسهم، فتأمل في هذه المعاملة وبين ما فعله النصارى بمسلمي الأندلس حيث وصف الحال الشاعر أبو البقاء الرندي هذه المأساة في قصيدته المشهورة حيث يقول فيها:


 تبكي الحنيفيـة البيضـاء من أسف       كما بكى لفراق الإلف هيمـان 
 حيث المساجد قد صارت كنائس ما       فيهـن إلا نواقيـس وصلبـان 
 حتى المحاريب تبكي وهي جامـدة       حتى المنابر ترثي وهي عيدان 
 لمثل هـذا يـذوب القلب من كمـد      إن كان في القلب إسلام وإيمان 

واسمع معي شهود عيان منهم وهم يصفون ما حدث منهم مع المسلمين ...
 ذكر المؤرخ الصليبي ميشو أن المسلمين كانوا يُذْبَحُون ذبح النعام في الشوارع والمنازل، وأنهم لم يجدوا مكانًا آمنًا يَلُوذون به.
 وذكر المؤرخ النصراني وِلْيَم الصوري أن بيتَ المقدس أصبح مخاضة واسعة من دماء المسلمين، أثارت خوف الغُزاة واشْمِئْزازهم، وأنه لم يكن من الممكن النظر إلى تلك الأعداد الضخمة من القتلى دون الإحساس بالرعب، ففي كل مكان ترى بقايا جثث القتلى مقطوعي الرؤوس والأيدي، وكانت الأرضُ مغطاةً بدماء القتلى.
 ونقل المؤرخ الغربي النصراني ديورانت عمن حضروا تلك المذابح وشاركوا فيها قولهم: "إنَّ النساء كن يُقتلن طعنًا بالسيوف والحراب، والأطفال الرضع يختطفون بأرجلهم من أثداء أمهاتهم، ويُقذف بهم من فوق الأسوار، أو تُهَشَّم رؤوسهم بدقها بالعمد". وذكر صاحب كتاب "أعمال الفرنجة": "أن جثث قتلى المسلمين وُضعت في أكوامٍ حتى حاذتِ البُيُوتَ ارتفاعًا".
 وقد اختصر الصليبيّون وصف هذه المذابح العظيمة في الرسالة التي أرسلوها إلى البابا يخبرونه بما فعلوا قائلين: "إذا ما أردت أن تعلمَ ما جرى لأعدائنا الذين وجدناهم بالمدينة، فثِقْ أنَّه في إيوان سليمان أو معبده كانت خيولنا تخوض في بحر من دماء الشرقيين المتدفّقة إلى ركبتيها".
 ولا أظن أن أحداً نسي ما حصل من مذابح في تل الزعتر وصبرا وشاتيلا وجنين وباقي المخيمات الفلسطينية. وما مذبحة المسجد الإبراهيمي عنا ببعيد فقد حصد المجرمون عشرات المصلين وهم ركع سجود في شهر رمضان المبارك من عام 1414هـ.

 وانظر أخي المسلم رغم كل ما حدث من الصليبيين تجاه المسلمين كيف تعامل معهم صلاح الدين :ـ

 ومع ما فعله الصليبيون في القدس فاننا نرى رحمة الإسلام ومسامحته حتى مع هؤلاء االصليبيين،
 فقد وصف المؤرخون ما حدث في اليوم الذي دخل فيه صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه إلى القدس فاتحـا : لم ينتقم أو يقتل أو يذبح بل اشتهر المسلمون الظافرون في الواقع بالاستقـامة والإنسانية .
فبينـما كان الصليبيون منذ ثمان وثمانين سنة يخوضـون في دماء ضحاياهم المسـلمين،لم تتعرض أي دار من دور بيت المقدس للنهب، ولم يحل بأحد من الأشخاص مكروه ؛ اذ صار رجال الشرطة يطوفون بالشوارع والأبواب  تنفيذا لأمر صلاح الدين - لمنع كل اعتداء يحتمل وقوعه على المسيحيين :
وقد تأثر الملك العادل لمنظر بؤس الأسرى فطلب من أخيه صلاح الدين إطلاق سراح ألف أسير، فوهبهم له، فأطلق العادل سراحهم على الفور، وأعلن صلاح الدين أنه سوف يطلق سراح كل شيخ وكل امرأة عجوز .
 وأقبل نساء الصليبيين وقد امتلأت عيونهن بالدموع فسألن صلاح الدين أين يكون مصـيرهن بعد أن لقي أزواجهن أو آباؤهن مصرعهم، أو وقعوا في الأسر، فأجاب صلاح الدين بأن وعد بإطلاق سراح كل من في الأسر من أزواجهن، وبذل للأرامل واليتامى من خزانته العطايا - كل بحسب حالته - فكانت رحمته وعطفه نقيض أفعال الصليبيين الغزاة.
 أما بالنسبة لرجال الكنيسة أنفسهم - وعلى رأسهم بطـريرك بيت المقدس - فإنهـم لم يهتـموا إلا بأنفسهم، وقد ذهل المسلمون حينما رأوا البطريرك هرقل وهو يؤدي عشرة دنانير( مقدار الفدية المطلوبة منه) ويغادر المدينة، وقد انحنت قامته لثقل ما يحمله من الذهب، وقد تبعته عربات تحمل ما بحـوزته من الأموال والجواهر والأواني النفيسة .

 لماذا لا تنتقم من أعدائك؟! 

 بينما كان صلاح الدين سائرًا ذات يوم في بعض طرق مدينة بيت المقدس قابله شيخ من النصارى كبير السن، يعلِّق صليبًا ذهبيًّا في رقبته، وقال له: أيها القائد العظيم، لقد كُتِبَ لك النصرُ على أعدائك، فلماذا لم تنتقم منهم، وتفعل معهم مثل ما فعلوا معك؟
فقد قتلوا نساءكم وأطفالكم وشيوخكم عندما غزَوْا بيت المقدس؟
فقال له صلاح الدين: أيها الشيخ، يمنعني من ذلك ديني الذي يأمرني بالرحمة بالضعفاء، ويُحَرِّم عليَّ قتل الأطفال والشيوخ والنساء. فقال له الشيخ: وهل دينكم يمنعكم من الانتقام من قوم أذاقوكم سوء العذاب؟ فأجابه صلاح الدين: نعم، إن ديننا يأمرنا بالعفو والإحسان، وأن نقابل السيئة بالحسنة، وأن نكون أوفياء بعهودنا، وأن نصفح عند المقدرة عمَّن أذنب.
 فقال الشيخ: نِعْمَ الدين دينكم، وإني أحمد الله على أن هداني في أيامي الأخيرة إلى الدين الحقِّ.
ثم سأل: وماذا يفعل مَن يُريد الدخول في دينكم؟
فأجابه صلاح الدين: يُؤمن بأن الله واحد لا شريك له، وأن محمدًا صلي الله عليه وسلم عبده ورسوله، ويفعل ما أمر الله به، ويبتعد عما نهى الله عنه. وأسلم الرجل وحَسُن إسلامه، وأسلم معه كثير من أبناء قومه.

 العنصر السادس : الفضل ما شهدت به الأعداء :


(شهد الأنام بفضله حتى العدى والفضل ما شهدت به الأعداء) 

 ومما يؤكد سماحة الإسلام تلك الشهادات التي نطق بها غير المسلمين وأدوها من غير إكراه؛ وإنما هو منهم إنصاف للحقيقة؛ لما رأوه في الإسلام من عدل وتسامح لا مثيل له.
 فمن ذلك يقول الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا:
 "إن الإسلام يمكن أن يعلمنا طريقة للتفاهم والعيش في العالم، الأمر الذي فقدته المسيحية، فالإسلام يرفض الفصل بين الإنسان والطبيعة، والدين والعلم، والعقل والمادة".
 ويقول غوستاف لوبون: فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب، ولا دينًا سمحًا مثل دينهم.
 ويبين الشاعر غوته ملامح هذا التسامح في كتابه (أخلاق المسلمين) فيقول: "للحق أقول: إن تسامح المسلم ليس من ضعف، ولكن المسلم يتسامح مع اعتزازه بدينه، وتمسكه بعقيدته".
 ويقول الفيلسوف جورج برناردشو: "الإسلام هو الدين الذي نجد فيه حسنات الأديان كلها، ولا نجد في الأديان حسناته!
ولقد كان الإسلام موضع تقديري السامي دائمًا، لأنه الدين الوحيد الذي له ملكة هضم أطوار الحياة المختلفة، والذي يملك القدرة على جذب القلوب عبر العصور، وقد برهن الإسلام من ساعاته الأولى على أنه دين الأجناس جميعًا؛ إذ ضم سلمان الفارسي، وبلالًا الحبشي، وصهيبًا الرومي، فانصهر الجميع في بوتقة واحدة".

 وبعد هذه النصوص الشرعية الإسلامية؛ والشهادات التي من غير المسلمين؛ هل يصح لأحد أن يقول أن الدين الإسلامي دين إقصائي؛ أو أنه دين يدعو إلى التطرف، أو أنه يزرع الكراهية في نفوس أتباعه؛ فما تلك الادعاءات إلا زورًا وكذبًا وبهتانًا على الدين العظيم الذي ارتضاه الله -عز وجل- للبشرية جمعاء.

 الخاتمة :ـ 

 أيها المسلمون :ـ هذا هو الدين العظيم الذي شهد الله العظيم بصحته وكماله ، وشهد بذلك الكُمَّل من الخلق : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } (آل عمران:18-19)
 وهو الدين الذي من اتصف به جمَعَ الله له جمال الظاهر والباطن ، وكمال الأخلاق والأعمال {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} (النساء:125)،
فلا أحد أحسن من هذا الذي انصبغ قلبه بالإخلاص والتوحيد، واستقامت أخلاقه وأعماله على الهداية والتسديد . وهو الدين الذي أصلح الله به العقائد والأخلاق ، وأصلح به الحياة الدنيا والآخرة ، وألَّف به القلوب المشتَّـتة والأهواء المتفرقة ، فخلصها من براثين الباطل ودلَّها إلى الحق وهداها إلى سواء الصراط .

 إن الواجب علينا نحن المسلمين أن نحمد الله على هذه النعمة العظمى والمنة الجسيمة ، وأن نستشعر فضل الله علينا بها قال تعالي { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الحجرات:17)،
وأن نقوم بحق هذه النعمة كما ينبغي ، وذلك بالتزود من علوم هذا الدين والتعرف على عقائده وأحكامه وآدابه ، مع التمسك الصادق والاستسلام الكامل ، وإقامة الوجه للدين القيم الحنيف بلا غلوٍّ ولا شطط ، وبلا إفراط أو تفريط ، وأن نطلب العون في تحقيق ذلك وتكميله من الله وحده ؛ فهو المستعان .



                                 انتهت بفضل الله تعالي

11 أبريل 2017

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ 

 الحمد لله رب العالمين .. خَلَقَ الإِنْسانَ، وخَصَّهُ بِالنُّطْقِ والبَيانِ، وأَحْصَى عَلَيهِ مَا يُخْفِيهِ ومَا يُبْدِيهِ، وتفضل عليه بالإكرام ،فقال تعالي  الرَّحْمَٰنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4){ الرحمن . 
 وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ .... نهي عن الكلام فيما ليس به علم فقال تعالي }وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36){ الإسراء . 
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم ... علم الأمة الإشتغال بما ينفعها واعتبر ذلك من أسباب القوة والخيرية ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم }المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان ){ ( رواه مسلم ) 
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .. 
 أما بعـــــــــــد ....فيا أيها المؤمنــــــــــــون 
لقد خلق الله تعالي الإنسان وزوده بالنعم والإمكانات فقال تعالي } وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78){ [النحل] 
وقال تعالي( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ(22)) الروم. وقال تعالي﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) ﴾البلد. 
 فمن النعم العظيمة التي زودنا الله تعالي بها نعمة اللسان،هذا العضو صغيرٌ، ولكنه جليلٌ وخطيرٌ يقود إلى الروح والريحان وعظيم درجات الجنان .. 
عضوٌ صغير إذا لم يتق العبد فيه ربه هوى، وضل عن سبيل ربه وغوى، إنه اللسان الذي إذا نظرت إليه حارك صنعه، ووقفت أمام بديع صنع الله في خلقته، ولئن سمعت أصواته وأنصت إلى عباراته بهرتك تلك الأصوات وتلك العبارات. يقف الإنسان حائراً أمام هذا اللسان الذي أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه المبين أنه دليلٌ على وحدانية الله رب العالمين، آية آية .. خلق هذا اللسان وخلق صاحبه على صفاتٍ لا يعلمها إلا هو جل جلاله. هذا اللسان ما خلقه الله عبثاً. 
 هذا اللسان أمره عظيمٌ عند الله الواحد الديان! إنه طريقٌ إلى روح وريحان، أو إلى دركات الجحيم والنيران. 
 هذا اللسان الذي إذا استقام لله جل وعلا استقامت من بعده جوارح الإنسان. 
 هذا اللسان الذي إذا حركه قلبٌ يخاف الله ويخشاه لم تسمع منه إلا طيباً. 
 هذا اللسان الذي إذا أُطلق له العنان هوى صاحبه في دركات الجحيم والنيران.
 ولذلك أوصى الله عز وجل عباده المؤمنين أن يتثبتوا في كل ما ينطقون به وينشرونه بين الناس من أقوال ، وأخبار، ومعلومات وأن يتكلم كل إنسان فيما يخصه ويفهمه ، لذلك كان حديثنا حول قول الله تعالي ((وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)) وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية ...
1ـ أمانة الكلمة . 
2ـ خطورة الكلام بغير علم .
 3ـ خطورة الكلام فيما لا يعني.
 4ـ الخاتمة .
 العنصر الأول : أمانة الكلمة :ـ 
إن الكلمة ليست شيئاً يمكن أن يُلفظ فيُهمل، أو يُودع في عالم النسيان، كلا، بل هي ذات شأن جليل، سلب، أو إيجاب، ولها تبعة دنيوية وأخروية، فإنها مسجلة ومكتوبة لن تضيع أبدا. فالكلمة سلاح خطير، وهي سلاحٌ ذو حدَّين، إما أن يؤدي إلى البناء والإعمار، وإما أن يؤدي إلى الهدم والخراب؛ ذلك لأن الكلمة هي التي تشكِّل التصوُّر، وتوجِّه الفكر، وتحرِّك الوجدان، ومن ثمَّ تحدِّد الموقفَ وتدفع إلى السلوك، فإن كانت الكلمة صادقةً أمينةً صالحةً أدَّت إلى الخير والبناء، وإن كانت كاذبةً باطلةً فاسدةً قادت إلى الشرِّ والدمار. ولقد أوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم معاذ بن جبل بوصيته الخالدة التي رواها الإمام الترمذي بسند حسن صحيح وفيها: أنه قال لـمعاذ : (ألا أخبرك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله. ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قال: بلى يا رسول الله! فأخذ رسولُ الله بلسانه، ثم قال: كُفَّ عليك هذا. فقال معاذ : أوَإنا مؤاخذون بما تتكلم به ألسنتنا؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم- إلا حصائدُ ألسنتهم؟!). 
 وقال صلي الله عليه وسلم"إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى، ما يلقي لها بالاً، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى، لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم" 
 وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال)). 
 فبكلمة تُشْعَل نار الفتن والحروب! 
وبكلمة خُرِّبت البيوت، وتألمت القلوب، وبكت العيون! 
 بكلمة خُرِّبت البيوت، وجُرِّحت القلوب، وبكت العيون، وتألمت النفوس! 
 وبكلمة فُرِّق بين زوجين، وبكلمة فُرِّق بين الأخ وأخيه، وبين الوالد وولده، وبين الولد ووالده!
 كل ذلك بسبب كلمة أيها الكرام. 
 ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنى والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغير ذلك ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه ؟!! 
 يا أيها المسئول! ويا من حَمَّلك الله الأمانة أمانة الكلمة !أمانة القلم !أمانة الإعلام ! ويا من منَّ الله عليك بقلم تكتب به! اتق الله! واعلم أنك مسئول بين يدي الله عن هذه الأمانة العظيمة، وأنك مسئول عن كل كلمة سطرها قلمك، وستُسأل هل أردت رضوان الله ورضوان رسول الله أم أردت الدنيا وزينتها ولا حول ولا قوة إلا بالله؟
 فاتق الله واعلم أن كل كلمة تتلفظ بها قد سُطِّرت عليك في كتاب عند ربي لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:52]. 
 يقول الله جل وعلا (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)) ق. وقال جل وعلا: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابَاً يَلْقَاهُ مَنشُورَاً (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبَاً(14)) الإسراء.
 العنصر الثاني : خطورة الكلام بغير علم :ـ 
 يقول الله تعالي }وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36){ الإسراء . 
صور الكلام بغير علم :ـ 
1ـ نشر الأخبار الكاذبة 
 لقد أمر الله تعالي المؤمنين بالتثبت من الأخبار واعتبر ذلك من التعبد فقال تعالي } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6){ الحجرات. 
وقال تعالي } وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83){ النساء. 
 فالتثبت من كل خير ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم عليها هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج الإسلام الدقيق. ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة. ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل. ولم يبق مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم. والأمانة العلمية التي يشيد بها الناس في العصر الحديث ليست سوى طرف من الأمانة العقلية القلبية التي يعلن القرآن تبعتها الكبرى، ويجعل الإنسان مسؤولاً عن سمعه وبصره وفؤاده، أمام واهب السمع والبصر والفؤاد..
 إنها أمانة الجوارح والحواس والعقل والقلب. أمانة يسأل عنها صاحبها، وتسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعاً.
 أمانة يرتعش الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق اللسان بكلمة، وكلما روى الإنسان رواية، وكلما أصدر حكماً على شخص أو أمر أو حادثة. {ولا تقف ما ليس لك به علم}.. 
ولا تتبع ما لا تعلمه علم اليقين، وما لم تتثبت من صحته: من قول يقال ورواية تروى. من ظاهرة تفسر أو واقعة تعلل.  
وفي الحديث: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث». 
 وفي سنن أبي داود: «بئس مطية الرجل: زعموا»
 وعن ابن عمررضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم قال " من أفرى الفرى أن يري الرجل عينيه ما لم تريا " . رواه البخاري . 
فالأمر جد خطير يظنه البعض هينا وهو عند الله عظيم يكلف الأفراد والمجتمعات الكثير لذلك قال الله تعالي} إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15){ النور
 وهكذا تتضافر الآيات والأحاديث على تقرير ذلك المنهج الكامل المتكامل الذي لا يأخذ العقل وحده بالتحرج في أحكامه، والتثبت في استقرائه: إنما يصل ذلك التحرج بالقلب في خواطره وتصوراته، وفي مشاعره وأحكامه، فلا يقول اللسان كلمة ولا يروي حادثة ولا ينقل رواية، ولا يحكم العقل حكماً ولا يبرم الإنسان أمراً إلا وقد تثبت من كل جزئية ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة، فلم يبق هنالك شك ولا شبهة في صحتها. {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} حقاً وصدقاً..
 2ـ القول علي الله تعالي بغيرعلم:ـ 
إن الناظر إلى حال الأمة يرى تخبطاً في الآراء، وتعارضاً في الأقوال، وتصادماً في الفتوى، وليس ذلك في الأمور التي يسوغ فيها الخلاف؛ بل فيما هو قطعي، أو مجمعٌ عليه عند الصحابة أو كبار الأئمة، وسبب ذلك معلوم عند الكثير وهو القول على الله بغير علم، فهذا يفتي، وهذا يرجح، والآخر يرد، وغيره يتأول!! 
 قال تعالي {ولا تقف ما ليس لك به علم} لا تقل قولاً بغير علم لأن من معاصي اللسان التي هي من الكبائر أن يفتي الشخص بغير علم . 
وقد صحّ وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سُئل عن بعض الأشياء فقال: "لا أدري" ثم سأل جبريل فقال: "لا أدري أسأل ربّ العزة" ، فسأل الله تعالى فعلّمه جواب ذلك السؤال ، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له ماذا علّمه ربه ، وهذا السؤال كان عن خير البقاع وشر البقاع ، وفي لفظ عن خير البلاد وشرها. فقال جبريل عليه السلام: "خير البلاد المساجد" وفي لفظ: "خير البقاع المساجد وشرّ البقاع الأسواق" . روى ابن حبان في صحيحه. 
فاعتبر العلماء أن يقول الرجل في المسألة التي لا يعلمها لا أدري فهذا نصف العلم ،
قال علي رضي الله عنه: ولا يستحي من يعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول الله أعلم. وقال مالك: من فقه العالم أن يقول لا أعلم. 
وقال الشعبي: لا أدري نصف العلم. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "العلم ثلاثة كتاب ناطق وسنّة محكمة ولا أدري" .
 أـ مكانة الفتوي :ـ
 لعظم الفتوي ومكانتها ،نجد أن الله تعالي بعظمته وكبريائه ،تولاها الله بنفسه في قوله تعالى: }يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ(176){ [النساء].
 وقال تعالى: }وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ(127){﴾ [النساء]. 
 وتولاها الرسول صلى الله عليه وسلـم فكان المسلمون يسألونه صلى الله عليه وسلـم ويفتيهم ثم بعد ذلك تولاها العلماء الذين هم ورثة الأنبياء بعد الرسول صلى الله عليه وسلـم. وكان عمر بن الخطاب إذا عرضت مشكلة، جمع لها المهاجرين والأنصار يستشيرهم فيها، فبعد الرسول صلى الله عليه وسلـم يرجع إلى أهل العلم الصحيح ولا يرجع إلي من ليس من أهل الفتوى. 
 فالذي يتولَّى الفتوى ويصدرها هو العالم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلـم المطلع على أقوال العلماء ليختار منها ما قام عليه الدليل، ولا يفتي إلا عند الحاجة. لذلك ينبغي علي المؤمن أن يحتاط لدينه، فإذا أُشْكِلَ عليه شيء سأل العالم الذي يثق به في دينه، ولا يسأل من هب ودب ممن لا تبرأ الذمة بسؤالهم، فإن الأمر دين، وكما قال محمد بن سيرين: إن هذا الأمر دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. 
 قال تعالى: }فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون(43){ [النحل]. 
وأهل الذكر هم العلماء، والذكر هو الوحي». 
لذلك أمرنا الله تعالي أن نتحري الدقة في هذا الأمر فقال تعالي } الرَّحْمَٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59){ الفرقان .
 لذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالي: «ليس لأحد أن يقول في شيء حلال ولا حرام إلا من جهة العلم، وجهة العلم ما نص في الكتاب، أو في السنة، أو في الإجماع، أو القياس على هذه الأصول، وما في معناها، 
قال تعالى}قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُون (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُون(60){ [يونس].
 وقال الإمام ابن كثير: «وقد أنكر الله تعالى على من حرم ما أحل الله ، أو أحل ما حرم، بمجرد الآراء والأهواء التي لا مستند لها، ولا دليل عليها، ثم توعدهم على ذلك يوم القيامة» ولكن نجد البعض من الناس اليوم يتساهلون في تلقي الفتوى، فنري الكل يفتي ، البقال يفتي والتاجر يفتي ، والزارع يفتي والصحفي يفتي وكل من قرأ آية من كتاب الله تعالي أو حديث من كلام النبي صلي الله عليه وسلم اعتبر نفسه مفتيا ، وصار يحدث عن الله تعالي ،حتي رأينا من يقدح في الأئمة والعلماء المجتهدين ويقول هم رجال ونحن رجال ، ويشكك في أصول الدين وثوابته ، وظهر علينا من يفتي بإباحة الربا ، ويفتي بإباحة الغناء الماجن ، والتبرج والسفور، وإباحة القتل ، وأشياء أخري ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهذا بداية نزع العلم . 
ولذلك حذر من النبي صلي الله عليه وسلم من هؤلاء ،فعن ثوبان رضي الله عنه قال رسول الله صلي الله عليه وسلم «إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ » أخرجه مسلم وابن ماجة. 
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلـم قال: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» 
ب ـ أسباب التساهل في أمر الفتوي والقول علي الله ورسوله بغير علم :ـ 
 1ـ حب الظهور وبريق الشهرة. 
2ـ الجهل وعدم دراسة الأحكام الشرعية دراسة منهجية مؤصلة: وإنما الاعتماد على الثقافة العامة، والدراسة السطحية للمسائل.
 3ـ عدم استشعار مسؤولية الفتوى وما يترتب عليها.
 4ـ العجلة وعدم التأني والنظر والتأمل.
 5ـ إرضاء الناس من ذوي الوجاهة والسلطان ، وذلك لأجل الحصول على شيء من متاع الدنيا وحطامها الفاني، إما منصب، أو مال، أو غير ذلك، وهذا حال علماء السوء، قال تعالى} يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِين(62){ [التوبة].
ج ـ خطورة الفتوي بغيرعلم :ـ
 ليعلم الجميع أن الكلام في دين الله عز وجل ما هو إلا إخبار عن الله تعالي وعن رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فليتحري كل منا النجاة لنفسه وتخليصها بين يدي الله تعالي، فالأمر جد خطير لما يلي .. 
1ـ كذب علي الله تعالي :ـ

 القول على الله بغير علم من الكذب على الله تعالى: }قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون(23){ [الأعراف].
وقال تعالى: }وّلا تّقٍولٍوا لٌمّا تّصٌفٍ أّلًسٌنّتٍكٍمٍ الًكّذٌبّ هّذّا حّلالِ وّهّذّا حّرّامِ لٌَتّفًتّرٍوا عّلّى اللَّهٌ الًكّذٌبّ إنَّ الَّذٌينّ يّفًتّرٍونّ عّلّى اللَّهٌ الًكّذٌبّ لا يٍفًلٌحٍونّ(116) مّتّاعِ قّلٌيلِ وّلّهٍمً عّذّابِ أّلٌيمِ(117)} [النحل]. 
2ـ من كبائر الإثم :ـ 
 لأنه جرأة وافتراء على الله، وإغواء وإضلال للناس،قال تعالي } قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)}. [الأعراف]
 نجد أن الله قرن الله ـ تعالى ـ القول عليه بغير علم بالفواحش الظاهرة والباطنة، والإثم والبغي والشرك، للدلالة على عظم هذا الذنب، وقبح هذا الفعل. 
قال ابن القيم: «وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها، وبعد أن ساق الآية التي أوردناها قال: فرتب المحرمات أربع مراتب:ــ 
 - بدأ بأسهلها وهو الفواحش.
 - ثم ثنَّى بما هو أشد تحريماً منه وهو الإثم والظلم.
 - ثم ثلَّث بما هو أعظم تحريماً منها وهو الشرك به سبحانه .
 ـ ثم ربَّع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله، وفي دينه وشرعه.
 4ـ تضليل الناس :ـ
 عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ ، فَأَصَابَ رَجُلا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ، فَاحْتَلَمَ ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ : هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ ؟ قَالُوا : مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ . فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ ، فَقَالَ : " قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ ، أَلا سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا ، فَإِنَّمَا شَفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ " ، شَكَّ الرَّاوِي ، " عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ " أخرجه أبوداود. 

وما حديث الرجل قتل تسعة وتسعون نفساعنا ببعيد، لما سأل الراهب فأفتي له بغيرعلم كانت النتيجة أن أهلك الراهب نفسه بسبب فتواه وأضل غيره ، من هنا نعرف أهمية العلم وشرف أهله ، وفضل العالم على العابد فالعلماء هم ورثة الأنبياء جعلهم الله بمنزلة النجوم يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر .

 5ـ يحمل اثمه واثم غيره :ـ 
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلي الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم (من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه) رواه أبوداود وابن ماجه وغيرهما 

 6ـ إصابة اللعنة :ـ
 قال عليه الصلاة والسلام: "من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض" .رواه الدارمي . 

6ـ المصير النار والعياذ بالله تعالي :ـ 

عن عبيد الله بن أبى جعفر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار ) . رواه الدارمي في سننه ، ضعفه كل من الحافظ ابن رجب في " شرح حديث ما ذئبان جائعان "، والعجلوني في "كشف الخفاء"، وضعفه الشيخ الألباني في " السلسلة الضعيفة ". والحديث وإن كان ضعيفاً غير أن معناه صحيح ، فمن أقدم على الفتوى من غير تثبت ولا بحث في الأدلة فقد تسبب في إدخال نفسه النار . والقول بغيرعلم كذب علي الله وعلي رسوله صلي الله عليه وسلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَذَبَ عَلَي مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ. رواه البخاري ومسلم. 

7ـ الفتوي بغير علم تؤدي بصاحبها إلي أن يقع في تكفير المخالفين ... 

 لقد حذر الله تعالي من إيذاء المؤمنين بالسب أو الرمي بالكفر فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا(58)} [الأحزاب]. 
وقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالفُسُوقِ وَلاَ يَرْمِيهِ بِالكُفْرِ إِلاَّ ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ».
 وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم أيضًا «لَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِالكُفْرِ فَهُوَ كَقَتْلِهِ»، 
فإذا كان تكفير المعيّن على سبيل الشتم كقتله، فكيف يكون تكفيره على سبيل الاعتقاد. وعن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال الرجل لأخيه ياكافر فقد باء بها أحدهما». رواه البخاري . 
وقد نهى الله عباده المؤمنين أن ينفوا مسمى الإيمان عن من أظهر ه واتصف به قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(94)} [النساء].
يقول ابن تيمية: "فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزال إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة " .
لا يجوز أن نكفِّر مسلمًا أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض برأي أو بمعصية إلا أن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلومًا من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملاً لا يحتمل تأويلاً غير الكفر". 
وقال أبو حامد الغزالي: "والذي ينبغي أن يميل المسلم إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلاً، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم".( المحجمة: ما يحجم به وقيل: قارورته) 

د ـ حال السلف مع الفتوي :ـ 

كان أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم والعلماء والفقهاء الأجلاء يتوارثون مقولة: "من قال الله أعلم فقد أفتى"، فأهون على المرء عند الله أن يقول: "الله أعلم" من أن يفتي بغير علم، ويورث بغير دراية، فيضل ويضل. ولخطورة القول علي الله تعالي ورسوله صلي الله عليه وسلم، لذلك كان السلف يكرهون الجرأة على الفتيا والحرص عليها والمسارعة إليها، والإكثار منها. 
 قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: «أدركت مئة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلـم يُسْأَلُ أحدهم عن المسألة، ما منهم من أحد إلا ودَّ أن أخاه كفاه. وفي رواية: فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى يرجع إلى الأول»

 وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَهْ قَالَ : سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ آيَةٍ ، فَقَالَ : أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي ؟ وَأَيْنَ أَذْهَبُ ؟ وَكَيْفَ أَصْنَعُ إذَا أَنَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَا ؟ 
 وقال الإمام أحمد: «من عرض نفسه للفتيا، فقد عرضها لأمر عظيم إلا أنه قد تلجئ إليها الضرورة، قيل له: فأيما أفضل الكلام أو السكوت؟
 قال: الإمساك أحبُّ إليَّ، قيل له: فإذا كانت ضرورة؟ فجعل يقول: الضرورة الضرورة، وقال: الإمساك أسلم له. وليعلم المفتي أنه يوقِّع عن الله أمره، ونهيه، وأنه موقوف، ومسؤول عن ذلك، 
وكان الإمام مالك إذا سُئل عن مسألة كأنه واقف بين الجنة والنار، «وجاءه رجل مسافر فسأله عن أربعين مسألة، فأجابه عن خمس مسائل، وقال عن البقية: (لا أدري)، فقال الرجل: جئتك من كذا وكذا، وتقول: (لا أدري)، قال: نعم، اركب راحلتك، وقل للناس: سألت مالكًا؟ وقال: (لا أدري)».
 وَقَالَ بَعضُ العُلَمَاءِ لِبَعضِ المُفتِينَ: «إِذَا سُئِلتَ عَن مَسأَلَةٍ، فَلَا يَكُنْ هَمُّكَ تَخلِيصَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ تَخلِيصَ نَفسِكَ أَوَّلًا». 
وعن الشعبي والحسن وأبي حَصين بفتح الحاء قالوا: «إن أحدكم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر». 
- وقال ابن مسعود: من كان عنده علم فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم، فإن الله قال لنبيه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)} [ص] 
 - وقال عبد الرحمن بن مهدي: «جاء رجل إلى مالك بن أنس يسأله عن شيء أياماً ما يجيبه، فقال: يا أبا عبد الله! إني أريد الخروج، وقد طال التردد إليك، قال: فأطرق طويلاً، ثم رفع رأسه، فقال: ما شاء الله يا هذا! إني إنما أتكلم فيما أحتسب فيه الخير، ولست أحسن مسألتك هذه.
 - وعن أبي بكر الأثرم قال: «سمعت أحمد بن حنبل يستفتى فيكثر أن يقول: لا أدري، وذلك فيما قد عرف الأقاويل فيه». 
- وعن الهيثم بن جميل قال: «شهدت مالك بن أنس سُئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري». 
 - وقد سئل الإمام مالك عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: إنها مسألة خفيفة سهلة. فغضب، وقال: ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قوله ـ جل ثناؤه {إنَّا سّنٍلًقٌي عّلّيًكّ قّوًلاْ ثّقٌيلاْ(5)} [المزمل] 
 فالعلم كله ثقيل، وبخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة. وسئل سيدنا علي رضي الله عنه وهو على المنبر، فقال: لا أدري، فقيل: ليس هذا مكان الجهال... فقال: هذا مكان الذي يعلم شيئاً ويجهل شيئاً... وأما الذي يعلم ولا يجهل فليس له مكان.
 وسئل الشعبي: فقال: لا أعلم.. فقيل: ألا تستحي وأنت فقيه العراقين "البصرة والكوفة"؟ فقال: لا أستحي مما لا تستحي منه الملائكة حين قالت: لا علم لنا إلا ما علمتنا (البقرة:32).
 - وقال: إذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تصعب عليهم مسائل، ولا يجيب أحد منهم في مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه مع ما رُزقوا من السداد والتوفيق، مع الطهارة؛ فكيف بنا الذين قد غطت الخطايا والذنوب قلوبنا»
 العنصر الثالث : خطورة الكلام فيما لا يعني:ـ 

إن من أخطر الأشياء التي يقع فيها الإنسان ، الكلام فيما لا يعني: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم (مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَالا يَعْنِيهِ). أخرجه الترمذيُّ وابن ماجه . 
قال ابن رجبٍ رحمه الله :هذا الحديثُ أصلٌ عظيمٌ من أصولِ الأدب. 
وهذا الحديث قد ورد معناه في الكتاب والسُّنة من غير وجه.
 قال الله جل وعلا{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا(36)}الإسراء [ 
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت). متفقٌ عليه. 
وكذا قوله جل وعلا{مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(18)} ] ق[ 
من مظاهر حُسنِ إسلامِ المرء ومن أدلةِ كماله، وصِدقِ إيمان صاحبه، والتزامهِ بدينِ ربِّه -جلَّ وعلا- قولًا وعملًا، فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم (مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ). وقد عدَّ حمزةُ الكنانيُّ هذا الحديث العظيم ثُلُثَ الإسلام. 
كما عدَّه أبو داوود أحدَ أحاديث أربعة يدورُ عليها العلم. 
وذكر ابن القيم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جَمَعَ الورعَ كله في هذا الحديث. وعدَّ بعضُ العلماءِ هذا الحديث من جوامعِ كَلِمِ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم التي لم يَصح نظيرها عن أحدٍ قبله؛ لأنه جمع نِصفَ الدين؛ لأن الدين فعلٌ وتَرْك، وقد نص على التَرْك، وقال بعضهم لقد جمع الدين كله؛ لأنه نصَّ على التَرْك ودلَّ على الفعل.
 وقال ابن القيم: (فهذا يعمُّ التَرْكَ لِمَا لا يعني من الكلام، والنظر، والاستماع، والبطش، والمشي، والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه كلمةٌ كافية في الورع: (مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَالا يَعْنِيهِ). 
ومعني قول النبي صلى الله عليه وسلم (مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَالا يَعْنِيهِ) أنَّ مَن حَسُنَ إسلامُه؛ تَرَكَ ما لا يعنيه من قولٍ وفِعل، واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال؛ ومعنى يعنيه: أنْ تتعلقَ عنايته به، ويكون من مقصده ومطلوبه. 
وإذا حَسُنَ الإسلام، اقتضى تَرْكُ ما لا يعني كله من المحرمات والمشتبهات والمكروهات، وفضولِ المباحات التي لا يحتاج إليها، فإنَّ هذا كله لا يعني المسلمَ إذا كَمُل إسلامه، وبلغ إلى درجةِ الإحسان، وهو أنْ يعبدَ اللهَ تعالى كأنه يراه، فإنْ لم يكن يراه، فإنَّ اللهَ يراه. فمن عَبَدَ الله على استحضار قُربهِ ومشاهدته بقلبه، أوعلى استحضار قُرِبِ اللهِ منه واطلاعه عليه؛ فقد حَسُنَ إسلامُه، ولَزِمَ من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام، ويشتغل بما يعنيه فيه، فإنه يتولد من هذين المقامين:
 الاستحياء من الله وترْك كل ما يُستحيا منه. 
قال بعضهم: (استحي من الله على قدر قُربِه منك، وخَف اللهَ على قدْرِ قدرته عليك).
 وقال بعض المحققين:(إذا تكلمتَ، فاذكر سمعَ الله لك، وإذا سكتَ، فاذكر نظرَهُ إليك). وقوله جل وعلا :{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ(61)}) يونس) 
وأكثر ما يُراد بتَرْكِ ما لا يعني حفظ اللسان من لغو الكلام كما أشير إلى ذلك في قوله تعالي{ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}. ق 
وقال الحسن: (من علامةِ إعراضِ اللهِ تعالى عن العبد؛ أن يجعلَ شُغلَهُ فيما لا يعنيه). وقال سهل بن عبد الله التُّستري :(من تكلمَ فيما لا يعنيه، حُرِمَ الصدق). 

والضابطُ في تحديدِ ما يعني وما لا يعني: 

هو الشرع المُطَهَّر، وقد ذكر الشاطبي رحمه الله قاعدةً في ضابط ذلك فقال: (كلُّ مسألة لا ينبني عليها عمل؛ فالخوضُ فيها خوضٌ فيما لم يدلَّ على استحسانِه دليلٌ شرعي). 
وما لا يعني الإنسان جزءان: 
*جزءٌ في أمور لا تعنيه ولا تهمه من أصلها؛ كشئونِ الآخرين وخصوصياتهم في كيفياتِ معايشِهم، وجهاتِ تحرُّكِهم، ومقدار تحصيلهم من الدنيا.
 *وجزءٌ في حاجاتٍ تَهُم الإنسان في أصلها كشئون المعايشِ من الطعامِ والشراب وغيرها، وما لا يعني فيها هو الزيادةُ فيها على قدرِ الحاجة وهو ما يُعرف بفضولِ المُباحات.

 أثر ترك ما لايعني علي الفرد... 
فعن زيد بن أسلم قال:(دُخل على أبي دجانة وهو مريض، ووجهه يتهلل، فقالوا علاما وجهك يتهلل يا أبا دجانة ؟ فقال: ما من عمل شيءٌ أوثقَ عندي من اثنتين: لم أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليمًا).
 إِنَّ طُولَ السُّكوتِ عَمَّا لاَ يَهُمُّ الإنسانَ ولاَ يَعنِيهِ يَبلُغُ بِالإِنْسانِ رِفْعَةَ المَكانَةِ وعُلُوَّ الدَّرَجَةِ وسُمُوَّ المَنزِلَةِ،
 قَالَ رَجُلٌ لِلقمان: مَا بَلغَ بِكَ مَا أَرَى؟ قَالَ: (صِدْقُ الحَدِيثِ، وطُولُ السُّكوتِ عَمَّا لاَ يَعنِينِي).
 إِنَّ حِفْظَ اللِّسانِ مِمَّا لاَ يَعنِي الإِنْسانَ يُجَنِّبُهُ الكَثِيرَ مِنَ الآثامِ، ويَدفَعُ عَنْهُ الضَّرَرَ، ويَقِيهِ مِنْ مَواطِنِ الخَطَرِ، بِهِ يَسلَمُ مِنَ العَطَبِ والزَّلَلِ، ويَنْجُو مِنَ الزَّيْغِ والخَلَلِ، وبِهذا يَسلُكُ طَرِيقَ النَّجاةِ، وخِلاَفُ ذَلِكَ شُرودٌ وتَخَبُّطٌ فِي كُلِّ اتِّجاهٍ. 
 فَعَنْ عُقبةَ بِنِ عَامرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسولَ اللهِ مَا النَّجاةُ؟ قَالَ: (امْسِكْ عَلَيكَ لِسانَكَ، ولْيَسَعْكَ بَيتُكَ، وابكِ عَلَى خَطِيئتِكَ).

 أثر عدم ترك ما لايعني علي الفرد ...

 ترك ما لا يعني يُمكِّنُنَا من راحةٍ نفسيةٍ تامةٍ, ننام ونحن نتمتع باطمئنانٍ تام, ونأكلُ ونشربُ بانشراحٍ وحيوية, في حينَ أن الفضولي المتطلع إلى ما لا يعنيه من قريبٍ أو بعيد يعيش في قلقٍ دائمٍ, وحَيْرةٍ قاتلةٍ, واستفساراتٍ لا يَجِدُ لها جوابًا. تُرَى ما سِرُّ علاقة فلانٍ الفلاني بفلان؟! 
وما هي أحوالُ فلانٍ المالية؟! 
ومن أين اكتسبَ هذه الأموال؟! 
وما سرُِّ هذا السرورُ البادِي على وجهِ فلانٍ هذا اليوم؟! 
والمسكين لا يَجِدُ لتساؤلاتِه أجوبةً شافيةً!! 
والذي يتكلم فيما لايعنيه يعرض نفسه للحرمان من علو القدرِ والدرجة عند الله عزَّ وجَلَّ...
 قال مالك بن دينار:( إذا رأيت قساوةً في قلبك, ووَهنًا في بدنِك, وحِرمانًا في رزقِك؛ فاعلم أنك تكلمت بما لا يعنيك).
 قال شيخ الإسلام رحمه الله (فإذا خاضَ فيما لا يعنيه نَقَصَ من حُسْنِ إسلامه فكان هذا عليه؛ إذ ليس من شرطِ ما هو عليه أنْ يكونَ مستحقًا لعذاب جهنم وغضبِ الله، بل نقْصُ قدره ودرجته عليه)، وكفى بهذا خسرانًا. 
وفي منثور الحكم: (أكثر الناس ذنوبًا أكثرهم كلامًا فيما لا يعنيهم).
 إِنَّ التَّدخُّلَ فِيما لاَ يَهُمُّ الإِنْسانَ ولاَ يَعنِيهِ رُبَّما يُبعِدُهُ عَنِ الجَنَّةِ ويُقْصِيهِ، فَالأَمْرُ إذاً جِدُّ خَطِيرٍ وشَرٌّ مستَطِيرٌ، وبِقَدْرِ تَنزُّهِ المَرءِ عَنْ هَذا التَّصرُّفِ المَعِيبِ تَكُونُ مَكانَتُهُ ودَرجَتُهُ عِنْدَ اللهِ القَرِيبِ المُجِيبِ، 
فَعَنْ أَنسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (تُوفِّيَ رَجُلٌ فَقالَ رَجُلٌ آخَرُ ورَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْمَعُ أَبْشِرْ بِالجَنَّةِ، فَقالَ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم : أَولاَ تَدْرِي؟ فَلَعلَّهُ تَكلَّمَ فِيما لاَ يَعنِيهِ، أَو بَخِلَ بِما لا يُنقِصُهُ). 

حال المسلم مع هذا الأمر :ـ

 الأمر يحتاج منا إلي محاسبة ومجاهدة ومعاقبة جادة مع النفس إِنَّ العَاقِلَ هُوَ الذِي يَتَحرَّى قَبْلَ الإِقْدامِ عَلَى القَولِ أَو العَملِ؛ فيُوَجِّهُ السُّؤالَ إِلى نَفْسِهِ: 
هَلْ هَذا القَولُ أَو هَذا العَملُ يَهُمُّهُ ويَعنِيهِ، فَإِنْ رأَى ذَلِكَ أَقْدَمَ، وإِنْ رأَى غَيْرَ ذَلِكَ امتَنَعَ وأَحْجَمَ، فَمِنَ الأَقوالِ والأَفْعالِ مَا هُوَ ضَروريٌّ، بَلْ مِنْهُ مَا هُوَ طَاعَةٌ وعِبادَةٌ، ومِنْهُ كَذلِكَ مَا هُوَ فَضلٌ وزِيادَةٌ، وصَاحِبُ الوَعْيِ اليَقِظِ والفِكْرِ العَمِيقِ يُخْضِعُ كَلاَمَهُ وعَملَهُ قَبلَ الصُّدورِ لِلْفَحْصِ والتَّحقِيقِ، فَإِذا كَانَ الأَمْرُ يَهُمُّهُ تَكلَّمَ أَو عَمِلَ، مُلاَحِظاً الوَقْتَ المُناسِبَ لِكَلاَمِهِ أَو عَملِهِ.. 
 فعن مجاهد قال:(سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: لا تتكلم فيما لا يعنيك؛ فإنه فَضْل ولا آمن عليك الوِزر، ولا تتكلم فيما يعنيك؛ حتى تجد له موضعًا، فإنه رُبَّ مُتكلمٍ في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فيعنت) 
فالأمرُ يحتاج منا إلى معاقبةِ النفس, كما فعل حسَّان بن أبي سنان عندما مرَّ بغرفةٍ فسأل: متى بُنيت هذه؟ فأدّبَ نفسه بصيامٍ لأنها تسأل عن ما لا يعنيها.
 فعلي كل منا أن يجتهد كل في مجاله ويبدع ويتميز حتي تنهض الأمة كما فعلت من قبل لما تخصص رجالها في كل المجالات فصار عندهم نوابغ في كل مجال كما رأينا في عصر الصحابة .... 
إن تميّز المجتمع الذي أقامه الرسول صلى الله عليه وسلم - في المدينة المنوّرة بالحيوية العجيبة رغم بساطة الحياة آنذاك، لم يكن ساكنا بل اسم بالنشاط الديني والدنيوي الحثيث الذي امتدّ في مدة وجيزة إلى جزيرة العرب ثم تجاوزها ليعمّ القارات، وما حدث ذلك طفرة وإنما بإتقان النبيّ عليه الصلاة والسلام لتوظيف جميع الطاقات البشرية والمادية توظيفا علميا منهجيا جعلها تؤتي أقصى ما يمكن نصرة للدين وخدمة للمسلمين...
 فأين نحن من ذلك؟ 
أسأل الله تعالي أن يحفظ بلادنا من كل مكروه وسوء...............
                                     آمين يا رب العالمين .